الاثنين، 1 نوفمبر 2010

أطياف يوسف فاخوري* بقلم : أحمد المريخي







أطياف يوسف فاخوري*


بقلم: أحمد المريخي


(1)



ربما ليس ليوسف فاخوري جسد كالذي نعرفه، فقد تلمس يوسف لكن من المستحيل أن تدرك جسده؛ (ذلك أن جسده لم يكن إلا وسيلة للحركة)**، هو (يحس دومًا وجعًا في أن يكون هذا جسده، كثيراً ما كان يندهش ويسأل نفسه: أهذا حقًا جسدي؟ إحساس دائم يستقر بأعماقه أنه يسكن جسده، وأنه لا بد أن يقيم فيه، وأنه يرغب لو يغادره، يغيم أحيانًا، يتبدي أحيانًا، لكنه لا ينقضي)، فهو خفيف جدا، يمتلك كثافة شفيفة، وصدقا حادا تحنو عليه مسحة من غموض، تلمحه واقفا وما هو بواقف، وجالسا وما هو بجالس، حريص علي ألا يزعجك، هو هادئ، وقور، مرح، سريع الحركة، غير مرئي، ويتحدث لكن يصعب أن تضبطه متكلما، وفي حضرته تشعر بوجودك متجليًا حتى لو كنت فردا في الجمع الغفير، وللدرجة التي تشعر معها أنك كائن خفيف ولطيف يملؤك الحب وتفيض به علي الآخرين، لكن بمجرد أن يغيب يوسف أو "جو" كما يناديه أحبابه، سوف تنتابك الوحشة..
يوسف.. (أريد أن أتعرف عليك).





(2)


نعم.. ليس ليوسف جسد، أنا أراهن علي ذلك، رغم أن طيفه يلوِّح بعكس ذلك، هو يصرخ: (لي رأس ورجلان ويدان مثلكم. انظروا؛ هذه عيني، ولي صوت يثقب أذانكم، وسمع يلتقط الهمس، لكني ابحث عن اسمي)، إن في التلويح بالمادي هنا لتأكيد علي مأزق وجودي يكتنف الإنسان، ليس بالضرورة مأزق روحي خالص، ولا مادي خالص؛ (تلك المشاكل كانت تذوب وتتباعد ويتداعى مكانها شيء أثيري، يفصله عن وجوده المادي إلي عالم مغلق عليه، ليس هو عالم الروح، أبعد من ذلك، وأكثر التصاقا بنفسه، شيء سائل وهفيف لا يدرك بالعين)، إنه الحيرة بين هذا وذاك، وإنه التماهي بين هذا وذاك، وإنه كل هذا وذاك؛ (كنت علي يقين أن في قلب الطوفان نقطة ضوء، من يمسها ينجو/ لم أدرك الزمن، يغيب ويعاود؛ حتى لم يعد زمنا، صار إيقاعا خفيا بلا صوت، إيقاع الصمت الذي فناؤه في ذاته يتوالد، ويمتد بلا انتهاء أو ابتداء).

ذلك المأزق ربما انسحب علي يوسف نفسه علي المستوي الشخصي لكنه تجاوزه أو اجتازه؛ (أخذ يتأمل العلاقة بين جسده وعمره، اكتشف أنه لم يستطع أن يرى ملامح تطور جسده، كل التطورات تمر عبر الذاكرة)، ثم (لا بد أن يكون للوجود معنى أكبر من مجرد تفاهة تلك الأشياء) وسوف تجد تجليات هذا في ملامح "جو" التي من العسير عليك أن تحدد هل هي لطفل بينما يسكنها طيفُ عجوزٍ أقل ما يوصف به أنه كائن خرافي قديم ومعتق، أم هي فعلا لعجوزٍ يسكنه طيفُ طفلٍ لطيفٍ، لم تنبت أسنانه بعد، وتضعك ابتسامته في عالم ٍخالٍ من التمييز، لا وجود فيه لثنائيات من قبيل المادي والمعنوي، الواقعي والمتخيل، الجسدي والروحي، إذ تمنحك تفاعلاً تتوالد منه حالة دمج فريدة، تقترب من الإحساس بالرضا تجاه النفس والآخر، وتدفعك إلي ضحك متواتر وممتع، ولا تدري لماذا هو من القلب؟!؛
(الوش لا عجوز ولا شبابى، تطلع له تلقاه شاب، تزوم تلقاه عجوز حسب الشمس ما تشرق، حسب الضل ما يوارب، الجسد إلهى الطلعة، كل ما يبعد يكبر لحد ما يطاول حضن السما، وكل ما يقرب يصبح إنسانى).
إذن.. الحكاية فيها إنّ.. وإنَّ هنا تفتح باب التأويل؛ (كان الزمان وكنت وكان، الابن ولا الضى، الشمس ولا ضحاها، الروح ولا سناها، خلق الرب الدنيا فى ست أيام، خلقت عمرى، وكان الزمن حلمى، وكان وكنت فخرانى، م العتمة شقيت لونى بلون الطين وسافرت فى الزمن ودرت).

الحكاية تتجاوز إشكاليات الجسد لكنها لا تسقطها؛ (لم تعد تخمر الطين إلا للذكري) الجسد هنا هو العجينة؛ لأ.. العجينة هي الجسد؛ لأ.. الروح الزمن اللغة السرد السامر السيرة الهزيمة الصراع؛ لأ.. كل هذه الخامات، لا تصنيف ولا توصيف ولا تراتيب؛ إنها ضفائر وعناصر الحرية، أحلام الصانع والمصنوع؛ الابن والأب، ابن الواقع وابن الحلم؛ (أنا وهو الحكاية، والحكى غاية.. غاية القمر يغازل الضلمة، غاية الشمس فضاحة، غاية الريح وشوشة، ما بين نار الغواية وهس المية ف الطين كانت الحكاية)!!
وتعيش مع أطياف يوسف نشوة المستحيل القيمة، والقيمة المستحيل، وفي غمرة النشوة تصدمك بديهية أن (الحياة تحتاج معجزة البقاء)!!
ثم تستدرك فجأة: لا شك أن لدي يوسف مشكلات وأزمات، لكن من يقطع بذلك؟



(3)



هو لن يمنحك فرصة الحديث عن الأزمات التي تحمل أسماء، فكل اسم موت، لذا يقول طيفه: (الاسم فراغ، أنا كان اسمي قد تاه في رحم أمي/ أنا الكفيف الاسم، أنا أمي وأنا أبي وأنا لا اسم بين الأسماء/ من يعطيني منكم اسما، يوما واحدا / اجتاح العالم، أخضعه تحت لوائي/ أمحو الأسماء جميعا) فالحديث عن البقاء أكثر جدوى، لأن الحياة تحتاج معجزة البقاء، ومعجزة البقاء تعني النجاة، وأولى مقومات النجاة المقاومة، وتاج المقاومة الانتصار علي الخوف، وذلك لا يتحقق بدون تراكم خبرات؛ (أنا الوحيد الذي نجا من الطوفان/ أنا من رأي الصراع وعصف الموج يهلك البشر، ويسحبهم في دوامات إلي القاع، أو يلطمهم بالصخور؛ الكثير من الناس مات من الخوف قبل أن تكتسح المياه سطح الأرض).


أما السلام والرضا عن النفس عند يوسف فاخوري، فرغم أنه ضرب من خيال، إلا أنه قد يتحقق بفعل بسيط يحرك حالة السكون، ففي الحركة بركة كما نقول، وفي كل بركة متعة، وكل متعة ترددات لسؤال مفتوح، سؤال الصراع الأزلي؛ (صراع السماوات السبع بالأرض، هل نسأل أيهما انتصر علي الآخر؟ لم ينتصر أحد، لأنها ظلت باقية وظللنا نسأل دون أن ننتهي).. وربما لهذا السبب يذوب السؤال عن مشكلات يوسف فاخوري كفرد تجاوز بوعي حاد أكثرية أزماته، ويتعايش مع العالم بمنظوره هو، برؤيته للحياة، بقناعاته، ودونما انتقاص أو امتعاض من قناعات الآخرين، إلا أن شاغل يوسف فاخوري لم يتبدد بعد، لأن طيفه ما زال يكابد، فلكلٍ يقينه، وما يؤمن به هو يتجاوز اليقين، إنها دراما الحياة التي تشكلها ترددات تساؤلات الحلم والواقع/ النصر والهزيمة؛ (كنت أرى اضطرابك المبهم فصرت بلا يقين، أصبحت أسأل نفسي هل الابن يقين أبيه؟ ربما الأب يقين الابن) ذلك الاضطراب يتجلى في الحوار بين الداخلي والخارجي/ الأنا والآخر/ الأصل والصورة/ الأرضي والسمائي؛ (يسوع نحن نصلي لك وننشد، دمك علينا، هل نحمله في الدنيا وفي الآخرة.. أنت المبدأ) ثم (لم أكن المبدأ، كنت الرمز/ رمز التحدي الذي فهمتموه استكانة).

إذن كيف السبيل إلي جَسْر الهوَّة ورأب الصدع؟!؛
(في زمني أجبت علي السؤال، واستجابت المعجزة قرونا لكنها اليوم شاخت، أنتم كمن ورث ميراثا ضخما وجاء الأحفاد ليبددوه).. إنه اغتراب لا نهائي؛ (تحلم أني (أنت)، وأنا أصارع الفرار من رهبتك ورغبتك ومستحيلاتك).




(4)



يوسف فاخوري تتبع ذلك الاغتراب السارح في وجدان الإنسان "بشكل عام" والحالة المصرية "بشكل خاص"؛(شردت وانقسمت الدنيا فى عينى نصين.. طلعت فوق الطابية وقعدت، كان الناس طول واحد ومشيهم واحد وجريهم واحد.. بصيت ع السوق حسيته فى بطنى، نزلت له، ومن يومها والسوق دارى.. لملم عضمى.. سكنى وسكنته.. لكن فضل السوق فى دمى غُربة).

إنها تراجيديا الحياة، وقد ترجم يوسف فاخوري ذلك بشكل فني ممتع في "حكايات الغريب" و"فرد حمام" و"فتنة اللحظات الأخيرة"، وقد عبرت كتاباته في مجملها عن الشواغل الوجودية لإنسان هذا الزمان، وراوحت بين همومه الخاصة والعامة؛ بما يكتنفه من ألم وحسرة جراء ما يقترفه، وما يقترف ضده من خطايا وأفعال.
لكن هل تنتهي تساؤلات إنسان يوسف فاخوري ؟.. إنها تتواصل بقدر الحلم والأسطورة والنهر، تمتد بلا نهاية؛ (كنت علي يقين أن في قلب الطوفان نقطة ضوء، من يمسها ينجو/ لم أدرك الزمن . يغيب ويعاود؛ حتى لم يعد زمنا. صار إيقاعا خفيا بلا صوت. إيقاع الصمت الذي فناؤه في ذاته يتوالد، ويمتد بلا انتهاء أو ابتداء).



(5)



ربما حسم يوسف فاخوري موقفه تجاه شواغله الوجودية، لكنه ما زال يعيش مكابدات أبطاله ومعاناة كائناته، أما الحياة بدراماتيكيتها فهي اليقين الوحيد الذي يتجلى في كتاباته، رغم ذلك لن تشعر معه أنه يكتب، هو فقط يعيش؛ (يغيم أحيانًا، يتبدى أحيانًا، لكنه لا ينقضي)، وعندما تقرأه تنتابك الحياة، ولن تشعر معه سوي بوجودك وحدك، لكن بمجرد أن يغيب سوف تنتابك الوحشة.
يوسف.. (هل تعرفت عليك) ؟!

أحمد المريخي
جريدة أخبار الأدب


ــــــــــــــــــــ

* يوسف فاخوري قاص وروائي من مواليد أسوان، صدر له: (حكايات الغريب وفرد حمام) قصص، و(فتنة اللحظات الأخيرة) رواية، وله قيد النشر (كانت تحكى لى) قصص.
** ما بين الأقواس مقتطفات من أعمال يوسف فاخوري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بكم..
أشرف بتعليقاتكم..
محبتى