الثلاثاء، 9 نوفمبر 2010

قصة قصيرة: ( مريم ) بقلم: الاديبة السورية فاتنه حمادة











قصة قصيرة:

( مريم )


بقلم:

الاديبة السورية فاتنه حمادة
.................





علمني الصغار كيف لا أهمل ملاحظة، أن لا أتعامل مع الأمور بظواهرها .. وأن أعطي من ذاتي دون مقابل ،أن أعود صغيرة بعمر الورود كي أفهم لغة العطور وأن أعرف متى أكبر ومتى أعود طفلة . لكنهم علموني أيضاً، أن الضغط عليهم يغير ملامحهم وينمو داخلهم شيطان إن لم تخنفه بالحب والإستيعاب.. سيتولد بداخله ألف شيطان...

طالبتي التي لم تتجاوز الخامسة عشر ربيعا... صبية تضج بالحياة ومعانيها...مقبلة عليها...تنهل من أحلامها وطموحها ما يدفع للإبتسام ..يتجلى تباهيها بقامتها وحسنها خطوات تعلن عن مراهقتها وضجيج مستنفر ، متأهب للتوثب نحو حب الظهور ولفت الأنظار لهذا الحسن وهذا التميز لديها ... في عينيها اقتناص لنظرات الإعجاب...تثير الإبتسام المغتصب من ملامح المحيطين بها... تتبختر ببهاء مصطنع... وتترك إنطباع لديك ، له أثره ،لجاذبية وغرابة تلك الشخصية.

تركت قصتها بصمات في مسيرة حياتي المهنية والإنسانية وتركتني تحت إنطباع أردده في داخلي " أموت ولا أنسى".

كانت ثالث طفل لعائلة محافظة حد التزمت. وهي أصغرهم سناً. أعطيت من الدلال والغنج ما ترك الأمور عند أبويها مربكة ومحبطة حد الخطأ بحقها وبمستقبلها .

عندما بلغت "مريم" سن المراهقة و ارتدت ملامحها أنوثة وبهاء، وآن أوان تلك التغييرات الفيزيولوجية والهرمونية أن تدفع بتصرفاتها إلى جموح وتمرد، جاءت ساعة قرار الأهل بضبط الأمور دفعة واحدة من بعد إنفلات في تربيتها يوم كانت طفلة. وإذ جاء وقت الحساب العسير، والأوامر المبالغ بقسوتها لضبط ما تسيب وانفلت من حبال تصرفات صبية اليوم، جاءت ردات الفعل محبطة حد الأذى. لتقرر حادثة ، ويالها من حادثة، مصير الفتاة ولتحكم وتصدر حكمها بحقها مع رفض النقض أو حتى الاستئناف بمحكمة الوالد، ومن ورائه الوالدة، بالرغم من إحساس أمومتها بتبرئة الابنة ، قبل المجتمع والوالد. إلا أنه لم يسعها إلا الوقوف مكتوفة اليدين.

عندما راهنت الأم داخلها على براءة ابنتها وقدرت أن يكون ثمن الرهان ، تهديد لوجودها واستمرارها كسيدة المنزل وربة البيت. اختارت أن تنقذ البيت وتراهن على حب الأب لابنته بالنتيجة، ومسامحتها....

تفجر غضب الوالد كبركان ثائر وتصاعد من قمة فوهة رجولته الجريحة ، أحس بتهديد يمس عنفوان شخصه.. مستفزاً... غاضباً ... منقلباً على طفلة الأمس وصبية اليوم .

حين رن جرس الهاتف يزعق في بيتي بعد منتصف الليل وقد مضى على نومي قرابة الساعة تقريباً، حسب ساعة المنبه بجانبي. كان ضابط أمن على الخط الآخر، يأمرني بإعطاء عنوان منزلي بوضوح و بالتفصيل، بلهجة مخابراتية توحي باتهام حتى قبل التحقيق، الذي أعلن عنه بكلمات كدت لا أستوعب معناها لغرابة موقف، لم أتصور يوماً أنني سأكون فيه.

لم تمضِ دقائق معدودة حتى أنتصب الرجل أمام باب منزلي . راقبته برهة من منظار ثقب الباب قبل أن أفتح له ليدخل، لم يصبر ، أعاد الطرق بملأ كفه وبضربات متسارعة عنيفة بيده اليمنى والأخرى ضاغطاً على جرس الباب بصورة مستمرة.

حدثتني نفسي: هو يعرف العنوان إذاً، تكلم عبر النقال من جوار بيتي!!. ارتعدت أوصالي وأنا أحاول التماسك أمام هذا الزائر البغيض ... ما زلت لم أبعد عن جفوني آثار حلم باق أشبه بكابوس تمكن مني... شعرت أن ذلك الضابط يتقصد إذائي، وكأن ثأر قديم يحمل غليله، ولم يشفه إيقاظي في تلك الساعة المتأخرة مع مزيد من التوتر، ذلك الذي تحول بعد قليل إلى فضول. ثم إلى ما يشبه المغص الكلوي وهو يسألني بغباء مردداً ما أقوله بكلمات أشبه بالفصحى ينطقها بصوت عالي ... آمراً العسكري المرافق له بكتابة ما يقوله حرفياً حد يثير السخرية والضحك، لولا بشاعة الموقف الذي وضعت فيه مرغمة... يتنقل متبختراً... ضاغطاً على أعصابي بأسئلة لا علاقة له فيها على الإطلاق حسب اعتقادي.

لم ينه ذلك الكابوس إلا طلب جاءه عبرهاتفه النقال، يأمره بالتوجه فوراً إلى مركزه ليتحول ذاك الديك الصداح إلى صوص هزيل.

تبين لي من لهجته أن هنالك خطأ في التوقيت... والمفروض أن يكون ذلك التفتيش في الثانية عشرة من ظهيرة اليوم التالي وليس تلك الليلة...

خرج ضيفي غير المدعو من بيتي وكانت الساعة قد تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل. كم عشقت سريري في تلك الليلة وآنسني تعتيم منزلي بعد خروج المدعو "محقق" من عندي وكنت في حالة من الغيظ وقلة الحيلة تحت ضغط مشروعيته في التحقيق معي. لم يسعفني فهمي من كل سيل الأسئلة إلا أنه جاء يحقق بشأن علاقتي بإحدى طالباتي.

لم أتوصل لأي صيغة تفاهم مع ذلك المغرور المتحذلق فأنكفأت على نفسي بعد أن رحل ، وزحفت إلى غرفتي لأنام ... وإن كنت لم أعرف النوم ليلتها....

هدأت نفسي بأن شعرت براحة بعض الشيء ، برحيله من بيتي وخلودي أخيراً لوحدتي. بعد أن هيئ لي أنه كابوس لن ينتهي.

لم أصل لأي نقطة تشفي غليلي وفضولي لمعرفة ماذا حصل أخيراً... وماذا عن علاقتي بالأمر. عدت بذاكرتي إلى زيارتي الأولى لمنزل " مريم" طالبتي المقصودة، بعد أن تبرعت شخصياً بإكمال دروسها المتراكمة وإكمال المقرر لصفها ...ولم يتبقِ لنهاية العام سوى شهر ونيف، بعد إصرار عائلتها بتوقف الصبية عن الدراسة وإجبارها على المكوث داخل البيت " حتى يأتي نصيبها" على حد قول أمها. عندها لم أجد بداً من التحاور معهم وإقناعهم بضرورة حصولها على شهادة الإعدادية على الأقل ولن يتبقى على نهاية العام سوى بضع أسابيع. وكوني مدرسة رياضيات، أقدر أنها مادة تعليمية يصعب على الطالب أن يدرسها منفرداً وحده. وأنها لقسوة فاقت حدها، حرمان الفتاة من تعليمها بحدوده الدنيا. ودون أن أتدخل بتفاصيل قرارهم، رغم علمي بسبب إقصائها عن المدرسة وتلك الحادثة المشؤومة، التي زلزلت كيان الوالد والأسرة . واشتعلت أحداثها وأشعلت الإدارة والمدرسة كلها. إنما نبوغ الفتاة وتميزها في دروسها ، لم يشفع لها عند والدها أن يتنازل عن موقفه المتشدد بحجبها عن الحضور إلى المدرسة، لكنه، شفع لها عندي، بأن أواصل اكمال المقرر من دروس الرياضيات لعلمي أنها مهما كانت نابغة، ليس من بد أن أتابع معها في منزل ذويها...

ألهبت موقد ذاكرتي وأنا أحاول استرجاع مايمكن أن أجد به مايثير الريبة حين كنت أتردد لإعطاء دروسي عندهم ... لأنني توقفت عن ذلك، بانتهاء العام الدراسي، ومضى إلى الآن أكثر من أربع أشهر على ذلك ...

تذكرت أنني خرجت يومها من بيتهم وكنت أشعر بضيق بعد الضغط النفسي الذي عانيته وأنا أجاري حديث الأم المتماوت وهي تتلكأ بأي إجابة عن سؤالاتي العادية . لم يحضر الوالد بيننا رغم إصراري على ذلك الحضور ، بحجة وعكتة المرضية. إنما وافق على طلبي أخيراً بالسماح لابنته "مريم" بإكمال دروسها في البيت ،وكأنه يمن علي بتلك الموافقة، وبعد أن خرجت ودخلت الزوجة مرات عدة برأسها المنحني فوق كتفها كأنها تستجدي صدقة من أجلي.

كانت ثورة الوالد لم تهدأ بعد ، وارتباك الوالدة يربكني ويلجمني من تناول ملابسات الحادثة التي كانت حصلت ولم يمض على وقوعها أكثر من أيام.

في صباح يوم آخر وصلت إلى منزل طالبتي "مريم". كنت قد تأخرت بوصولي عندها بما يفوق النصف ساعة ، رغم دقة مواعيدي معها، بسبب صراع مع عوارض رشح وزكام أبطئ حركتي. وكعادتي لم أضرب الجرس لعلمي أن والدها لم يكن يحب صوته. نقرت على الباب بطرف قلم أحمله وأنا حريصة أن يصل الصوت لآذان "مريم" أو الخادمة التي أعتادت أن لا تتأخر علي بفتح الباب. كررت النقر مرات عدة فلم يجب احد. طالت وقفتي، وأحسست أن ما زاد على إحساسي بطول الانتظار عوارض اوجاع الزكام لدي. لكنني عندما هممت بالرجوع، أطلت طالبتي بوجهها الجميل من فتحة الباب... وخصلات شعرها المتناثر بفوضى... تغطي جبينها بطريقة ما عهدتها بها وهي الفتاة الحريصة على تهذيب شعرها وثيابها ، لتبدو أمامي كما هي داخل صفها في المدرسة.

وسعت فتحة الباب ووقفت من ورائي بعد أن دخلت. تهندم ثيابها المشعثة بحركة سريعة تدل على ارتباكها. كانت المرآة أمامي تعكس هيئتها دون أن تلحظ مراقبتي لها. مشيت في ممر طويل قبل وصولي إلى الغرفة حيث اعتدت إعطاء دروسي فيها، وقبل أن أصل إلى الباب التفت أسألها عن علبة مناديل. شهقت لحظة وجهت سؤالي لها وكانت تسير خلفي ، قبل أن ألتفت وأرى ارتباكها ووجهها الذي بدا أكثر احمراراً.

قلت لها باستغراب: هل طلبي مخيف لهذه الدرجة؟ ابتعلت ريقها ..وأجابت بصعوبة، ونصف كلماتها مبتورة: لا...لا...لا ابدا آنستي. لا شيء

و مباشرة وأنا أعاين قامتها من رأسها حتى أخمص قدميها. سألتها: هل بك شيء "مريم".

أجابت بإيماءة من رأسها: بلا.

أكملت طريقي نحو الغرفة وأنا أتوقع أن تحضر لي علبة المناديل التي طلبتها. عادت " مريم" ولم تحمل بيدها إلا رزمة أقلام ودفتر لا علاقة له بمادتي. سألتها عما يحدث.... وهل هي على مايرام. ودون أن أدري كنت زدت في إرباكها دون قصد مني، لكن سؤالي كان غاية في البراءة : إن كانت الوالدة موجودة.

- أجابت : نعم..... ثم ..لا .. هي خرجت لتوها... نعم والله العظيم الآن خرجت.

استغربت طريقتها بالتأكيد ..وهي تقسم بأن أمها خرجت في الحال.بعد مجيئي.

- قلت لها: ... حسناً .. أنا لا أريد شيء منها.

ظننت بداية أنها تعليمات من الوالدة ، لعلها غير مستعدة لمقابلتي في ذلك اليوم. وهذا شيئ لا يعني لي الكثير.

خرجت "مريم" من الغرفة لإحضار دفاترها المطلوبة ..وطال غيابها.... ولأنني أعاني من رشح وهي لم تأتيني بالمناديل.. توجهت إلى خارج الغرفة بهدف الوصول إلى الحمام.

دخلت خطأ بممر طويل ، تبينت بعدها أنه يفضي إلى المطبخ. ورأيت موقفاً لم أعرف وقتها إن كان عادي ام لا. كانت " الخادمة تقف قبالتها تقسم وتزيد القسم.... الخادمة بقامتها الضخمة ونصف انحناءة و طالبتي بحجمها الصغير... تتجادل معها بحدة واهتمام ... وانفعال ظاهر .. تلوح بساعديها ... محمرة الوجه وملامحها تعلن عن انزعاج ... ولأنني أنتظر علبة المناديل الورقية وأنا مرتبكة بما أصابني من زكام..... ثم اضراري للخروج من الغرفة بحثاً عن الحمام... أغاظني. جدالها مع الخادمة، كان من الممكن تأجيله لطالما أنها وخادمتها بنفس البيت ...

لكنها مفارقة استوقفتني بعد ذلك. هل من الممكن أن تكون مريم ارتكبت ذنب وتريد من خادمتها التكتم عليه؟ ربما كانت تحادث حبيباً بالهاتف ... أو ربما عثرت الخادمة على صورة لشاب بحوذتها... أو...أو... أقلقني أن تكون عند "مريم" إرتكابات ستؤثر على دراستها وتزيد من تشدد والدها ومن تضييق الخناق حول رقبتها أكثر فأكثر .

عدت إلى الغرفة و كل شيءكان بعدها طبيعي.

كانت والدة "مريم" غالباً ما تأتي إلي بعد نهاية كل درس . كانت تتحاور معي وتتلمس مني إعطاء تقرير عن سلوك ابنتها قبل تقريري عن درسها أوأدائها..ففي بداية الأمر كنت ألحظ عبوس وتركيز كبير في ملامح الأم وكانت تزم فمها بعصبية كلما انتظرت إجابة مني. ظلت تربكني وتحسسني كأني موضوعة تحت مجهر، أو كأني سأحاسب إن لم يكن تقريري بالدقة الكافية. و كلما تطرقت إلى الحديث عن شيء يخص الدروس ، محاولة مني شرح نقاط ضعف "مريم" بالنسبة لما كانت عليه قبل حرمانها من المدرسة، كانت الأم تقود الحديث إلى كيفية تصرفات وسلوك ابنتها ... سواء في الوقت الحاضر أو فيما مضى، وقت كانت "مريم" ما زالت طالبة نظامية. والحق يقال... كانت طالبة مثالية ... برأي وبرأي كل مدرسيها ومدرساتها ...تصرفاتها كأي فتاة تمر بمرحلة المراهقة مقارنة مع باقي زميلاتها... لم يصدر بحقها أي شكوى من إدارة المدرسة...

كنت أذهب إلى منزل "مريم" كل يوم تقريباً عدا يوم الجمعة. أعطي دروسي قرابة الساعتين، وأكثر من ذلك أقضيه مع أمها التي كانت تصر على انفرادنا بالحديث وإقصاء الفتاة خارج الغرفة.

كانت تحدثني عن ولادتها المتعسرة بمريم، وعن فرحتها وفرحة الجميع المكتومة بالمولودة ،وهم اللذين لم يرزقوا بأسرتهم الصغيرة ولا حتى في محيط أسرة الأب كأخوات أي فتاة ... مما صعد نجم مريم وأصبحت تحت أنظار الجميع.

كانت الأم تجلس قبالتي وتحلق بالفراغ وهي مسترسلة في الحديث عن ابنتها. تكلمت عن كل سنة وكل شهر مر بطفولتها. كانت تتوقف عن الحديث حين أذكرها بأنها أصبحت صبية بعمر المراهقة فتتنهد وتلوح دمعة بمقلتيها ثم تنسحب.

وبمرور الوقت تثنى لي أن أفتتح من جديد الحديث عن الحادثة المشؤومة .. وكيف تعرضت "مريم" إلى مظالم فوضعت بخانة الشك، ولم تكن سوى مصادفة لم تخدمها أبداً...افتتحت حديثي بأن سألتها إن كانت الصبية التي وقعت بنفس الفخ، مسموح لها بزيارة الابنة... تحاشت الأم خوض الموضوع ... لكنني كنت مصرة، ولن أسمح أن تمر مثل هذه الحادثة وأنا على علم ببرائة "مريم" ...

قلت : هل تظنين فعلاً أن ابنتك التي ربيتها أنتي وعرفتها أكثر من الجميع أن تكون متورطة فعلاً بالدخول لمنزل هؤلاء الشبان، مع باقي مجموعتها من الفتيات، وهي تعلم أنه منزل موبوء؟!!

- واللهي يا آنسة سماح، كل ما أعرفه أن موجهة المدرسة ، داهمت المنزل ، وكانت ابنتي بين المجموعة...

- ألا يهمك أن تعرفي كيف دخلت...

- سمعت من "مريم" ولم يقنعني تبريرها، ولا أعجب والدها..

- هل لي أن أضيف تفاصيل، لم تعرف أن تستند إليها "مريم" بحكم عمرها الصغير لتسوقها دليل برائتها؟

- ...................................

- يوم تعطل "باص" المدرسة ، ومرت قرابة النصف ساعة، ولم يأت . وكان الكادر التدريسي والإدارة انصرفت من المدرسة، إلا من فصول الحصص الإضافية، حيث كنت من المدرسات اللواتي تعطي درساً إضافياً لشعبة أخرى.. "مريم" وزميلتها التي تقطن نفس المنطقة على نفس خط التوصيل إلى المنازل. لم تجد بد من الخروج والبحث عن هاتف ليأتي أحد من أفراد الأسرة لإعادتها وزميلتها إلى البيت...

- ولماذا لم تطلب منك أو من غيرك من المدرسات الهاتف النقال للاتصال؟

- هي وزميلتها تعرف بأنه ممنوع على أي شخص مقاطعة الدرس، وهذا انضباط من الفتاتين...

- نعم.. ولماذا إذاً لم تنتظر حتى انتهاء الدرس، لتدخل بعدها وتطلب هاتفك النقال؟

- يا أم مريم... هل من المعقول انتظار قرابة الساعتين، في باحة المدرسة لعمل لاشيء سوى الانتظار؟!!...خاصة أنه متعارف عند الفتيات اللجوء إلى هاتف خارج المدرسة في ظروف كهذه!!

- حسناً ، أنت قلتها، الخروج لإجراء مكالمة وليس زيارة لمكان موبوء ليس به إلا شبان منحلين..

- هي لم تخرج مباشرة لذلك البيت... سألت عن هاتف، وكانت الفتيات الأربع تقف عند الباب الخارجي...

- وبعد...

- واحدة من الواقفات.. تحمست للموضوع وقالت أنه يوجد أقارب لها في البناء المقابل... وهو أقرب مكان للاتصال..

- وكيف تصادف أن داهمت البيت تلك الموجهة بصبحة حارس المدرسة إلى هناك؟

- اشتكت بعض الطالبات إلى الموجهة التي وضعت الفتيات اللواتي كن عند الباب تحت المراقبة..ويوم ذهبت الفتيات الستة إلى هناك.. وداهمت المنزل مباشرة بعد دخولهن... تصادف أن كانت "مريم" وزميلتها في ذلك اليوم.. دون أن يكن لديها أي فكرة مسبقة عن الموضوع..

- نعم ..... نــ .... نعم.......هكذا استطيع أن أفهم لماذا لم تتصل بنا... لم يسعها الوقت وكانت الموجهة قد دخلت رأساً....وكنا أنا ووالدها بنينا دليلنا على عدم تلقي أي مكالمة منها...

أصبحت ألحظ تحسن برد فعل الأم اتجاه وحيدتها.إذ أصبحت أقل توتراً وبدأت ملامح الرضى وشبح ابتسامات تلوح بوجهها. لابد أن شرحي لملابسات الحادثة كان له أثره الإيجابي ... أصبحت ألطف بكثير، وردود فعلها اتجاهي من الغبطة والرضى الكثير، ورغبة في التقرب مني.

فوجئت بعبارة الأم حين أصرت على أنني السبب بتغيير تصرفات "مريم" وانقلابها... وكان تفسيري لرضا الأم علي وعلى ابنتها هو معرفة الحقيقة بعد أن شرحت لها تفاصيل الحادثة ...و برأيي أنا هي على العكس تماماً...ليست بأحسن حال... بل أشعر بتراجع في أدائها الدراسي... ولم يعجبني ذلك الشرود المتواصل وقت إعطائي الدرس... لكنني عرفت بعدها ، أن ما يرضي الأم بالوقت الحاضر .. هو شيئ آخر... هو مكوث "مريم" المتواصل في البيت .. والكف عن الإلحاح بالخروج كما كانت من قبل... هو تغيير أسلوبها في اللباس ورغبتها في ارتداء المحتشم الذي يخفي تفاصيل جسدها ..بعد (رجوعها إلى دينها وقراءة القرآن) على حد قول الأم.....

لا أعرف لماذا كنت أحس بضيق كلما تحدثت معي الأم ونقلت مشاعر احساسها بتغير ابنتها وامتنانها لي. فأنا لست المسؤولة عن حجم ذلك الانقلاب في شخصية "مريم" بل إنني بطريقة ما، كنت أشعر بخطب أصاب الفتاة وأنا أعرف ضمناً تقصيري بعدم لفت نظر الوالدة لموضوع إمكانية تواصل الفتاة مع أحدهم عن طريق الهاتف. بعدم لفت نظرها إلى ذلك الشرود المتواصل الذي زاد عن حده، والذي يضطرني في كثير من الأحيان إلى نهرها لتعود لمتابعة الدرس معي. كما لم ألحظ أي تحسن بنفسية الفتاة أو حتى مايدل على إحساس بالرضا عن نفسها . لم اتحدث معها كثيراً بشأن سلوكها وتصرفاتها. بل كنت أمرر لها، خلال إعطاء دروسي، بعض من توجيهات وأمثلة بطريقة غير مباشرة. وهي لم تشكو لي ولا مرة عن ظروفها في البيت. فلم أجد الفرص الكافية لفتح مواضيع جانبية لكنني لاحظت حتماً هدوئها وتلطفها في الكلام. أصبحت تتحدث بصوت أخفض وتنتبه لكل عباراتها. وإن فقدت تلك الحيوية في خديها.

لاح لي شيء غير كل هذا... رأيت إبتسامة هازئة واستخفاف في وجه "مريم". لمحته لأول مرة، عندما كانت الأم تتحدث معي بهمس وهي ترمقنا ... كأني لمحت موت فرح... وخيبة عميقة ساكنة تحت أجفانها ،أرتجفت مع كل حركة ورد فعل مما حولها... كانت عيونها تحمل قلقاً يقفز بمناسبة وبلا مناسبة... لاحظت همود حركتها.... واسترخاء بكتفيها ...لم أعد ارى ذلك الإشرئاب في عنقها... وكان ميزة ميزتها عن غيرها.

في آخر درس مقرر وامتحان مادتي في اليوم التالي، كان من المفروض أن أمكث ما يفوق الأربع ساعات لمراجعة مقرر السنة بكامله. وكالعادة لم أقرع الجرس إنما أنقر نقراً خفيفاً بقلم أحمله. أنتظر قليلاً، فيفتح لي الباب. إنما في ذلك اليوم لم ألبث أن أباشر بالنقر حتى بانت "مريم" تطل بوجهها ...للوهلة الأولى راعني ما لاحظته في ملامحها ونظرتها. أحسست أن عينيها أصبحت أكثر إتساعاً رغم زوغان بارز بتلك النظرة القلقة. كان وجهها ممتقع وقد كست حوالي العينين هالة سوداء ...شفاهها التي كانت بلون الكرز ... تحولت إلى ما يشبه قشرة الليمون. وجه أنتشل من قبر.

مددت يدي لمصافحتها فلم تنتبه. فتحت باب الدار وتركتني أدخل ومازالت هي مادة بصرها إلى ما وراء الباب.... .

قلت لها:



ـ مريم.. هل تنتظرين أحدهم وفاجأك حضوري رغم الموعد؟.....

ـ لا ... لا... آسفة أنستي ... لكنني.... لكنني.. كنت...

قاطعتها :

ـ كنت ماذا ؟... تكلمي مريم.. هل أصاب أحدكم خطب....

ـ لا ..لا.. لا عليك .. أنا آسفة إن تركتك تحسين بذلك...

قلت لها بلهجة صارمة وجافة : حسن ... إذاً!! لندخل إلى الدرس فهذه آخر زيارة لي. سنراجع كل المقرر وأريدك أن لا تكوني متوترة وأن تركزي معي.

وقفت "مريم" بعد قليل تمشي باتجاه باب الغرفة حيث وقفت والدتها تحمل صينية عليها شراب على غير عادة الأم. فتلك هي مهمة الخادمة. أحسست بالامتنان بل أكثر من ذلك أحسست ببعض الحرج وأنا أرى سيدة البيت التي تكبرني، وهي بمقام أمي، تأتيني بالشراب بدل الخادمة. فوقفت وخطوت نحوها بهمة خجلى لأعبر عن تقديري واحترامي. وإذا بمريم تسحب الصينية من يدي أمها بسرعة لتقدمها لي. لم تلبث أن تهالكت في مشيتها وصدمتني بما تحمله من شراب. وقفت لا أعرف ماذا سأفعل وأنا أرى الأم تسحب بعصبية وسرعة... بضع قطع من المناديل بعلبة فوق طاولة أمامي وتبدأ بمسح ثيابي وعند أقدامي. بينما أسرعت مريم لتجلب المكنسة والماء. كل ذلك كان أكثر من كرم بالنسبة لي، أن تقوم الوالدة بنفسها بتنظيف ثيابي بدل أن تنادي على خادمتها. اعتبرته امتنان الأم بتغير سلوك ابنتها بكل تفاصيله. فآثرت بإشعاري بذلك الامتنان عن طريق تلطفها الزائد معي.

خرجت ذلك اليوم من بيت طالبتي بعد أقل من ساعة ونصف لأن مريم يومها لم تكن على ما يرام. كنت أشرح وأكتب وأتكلم وحدي. وقد تعبت لكثرة ما اضطررت للفت انتباهها. لكنني في نهاية المطاف يأست واعتذرت.

وكم سخرت من نفسي واكتشفت مدى غروري ،وما أحسسته من تقصير اتجاه الأم التي بذلت جهدها بتكريمي وها أنا أعتذر قبل الموعد.. ما عرفته وأنا خارجة أودعهم أنه لم يكن تكريماً إنما هو تغيب الخادمة التي ربما كانت في اجازة او لربما فرت هاربة من عندهم.

مر على زيارتي الأخيرة لمنزل "مريم" أكثر من أربع أشهر. كانت عطلة الصيف أقصر مما يخطط لها لإنجاز مهام وأمور مؤجلة. على أقل تقدير زيارتي لمنزل مريم . لكنني لم أعد أسمع من طرفهم أي كلمة ولو حتى بالهاتف.. اللهم إلا مرتين خلال الشهر الأول من العطلة.

في تلك الليلة التي سببت لي أرقاً بعد زيارة المحقق إلى بيتي. و التحقيق الذي خص طالبتي "مريم" التي عايشت وعرفت الكثير عنها . تلك المسكينة ماذا حصل معها من جديد؟ تشوش ألهب تفكيري، ولم يكن أمامي خيارات سوى إعادة شريط صور زياراتي لمنزل أهلها من جديد. كنت أحاول أن أحصر دماغي وأقف عند كل لقطة لموقف معين أو لتصرف أو حدث. كانت حياتهم هادئة جداً ..لم أرى من سكان البيت إلا الأم والابنة والخادمة . ومرة واحدة لمحت الوالد أو بالأحرى شعرت بوجوده يوم تأفف من صوت الجرس فاستعضت عنه بالنقر بطرف القلم...ويوم تكلمت معه عن طريق زوجته لإقناعه بوجوب إكمال دروسها. وتلك كانت بالنسبة لي دلالة على تلف أعصاب الأب والهدوء الشديد في منزل يكاد يكون أشبه بالسجن.. فكل النوافذ موصدة تغطيها ستائر سميكة... كأنهم يخافون أن تلمح الشمس غرفهم ومن فيها.

بانت خيوط النهار ولاح الفجر... ولم أنم. كنت أنتظر أن يمر الوقت لأذهب مباشرة الى منزل مريم. واجب هو علي إعلامهم بشأن المحقق. لم ألجأ إلى الهاتف كي لا يعتذر لي أحدهم . فلا أجتمع بمريم

حالما دبت الحركة في الشارع أرتديت ملابسي على عجل، بضع دقائق كنت أمام بابهم، طالت وقفتي وقارب قراري بالأنسحاب والعودة، بعد أن يأست. لكن الباب لم يخيب أملي، لتظهر أم مريم أمامي، كأنها تتحدى فضولي... شبح ابتسامة صفراوية لاح رغم تجهمها.

وقفت لا أعرف كيف أبدأ بعد أن ألقيت تحيتي بارتباك ... تخيلت أن شكلي أصبح كطفل صغير يبتسم وهو يكابر بإطلاق صرخة بكاء، بعد أن بال في ثيابه. فلو كان لدي خيار لهربت من وجهها وأنا ألعن اللحظة التي أتيت بها. لكنها شعرت بي وأفسحت الطريق أمامي. قالت ملاطفة : أهلا وسهلا شرفت .... تفضلي البيت بيتك....

انتبهت لنفسي أنني ألتقط خطواتي فلا أدوس على كعب قدماي... وألقيت بجسدي دفعة واحدة عند أول كرسي في الصالون. كان المنزل كعادته هادئ حد الموت.. بارد رغم الحر خارجه.... وغير مضاء.

جلست الأم قبالتي ترحب بي وهي تكابر أن تنفجر باكية يمنعها كبريائها. فبادرت أنا وسألتها: أين مريم؟

أجابت: مممممممممم موجودة.... نعم .... موووووو

ـ أنا لم آتِ لأحرجك لكن مريم عزيزة وغالية على قلبي ويعلم الله كم أحببتها... وكم عنى لي نجاحها... لكنني جئت لأعلمك بأن محقق زارني فجر اليوم ...وأخذ يسألني عن علاقتي بمريم ... تفحصه لمنزلي وذلك الإقتحام لبيتي ،عنى لي شيء واحد ...

ـ نعم .... "مريم" هربت من المنزل....

رغم توقعاتي .. إلا أنني أطلقت شهقة بصوت .. حاولت مداراتها بأطراف أصابعي قلت:

ـ إلى أين

ـ منذ حوالي الربع ساعة فقط.. عرفت أين. أنها عند خالها في حلب.

ـ لماذا خالها... لماذا هربت أصلاً.

في تلك اللحظة أنفجرت الأم بنوبة هستيرية من البكاء. لم تستطيع أن تجيبني. أخذت أهدأ من روعها بعد أن توجهت إليها وأنحنيت واضعة كفي فوق ظهرها المنحني والأخرى فوق رأسها قائلة: .

لا تقسي على نفسك أكثر... كفاك ما عانيتيه لمعرفة مكانها...وأنا أكيدة من ذلك لكنني أحس بك . كان الله في عونك.

لم أجد ما أزيده من كلمات تخفف عنها وتعلن تعاطفي. أهدهد فوق كتفها برفق. مرت دقائق بطيئة وثقيلة أحسست كأنها دهراً...لكنها هي من أكمل الحديث بصوت مخنوق. كان وجهها محتقن شديد الإحمرار وقد تحولت عينيها إلى جمرتين وفمها يزمه إنفعال يكابر بكاءً ودموع حرة لاإرادية ،غسلت وجهها . قالت وهي تشهق:

ـ فضيحة كبيرة ... أكبر من أن يحتملها من كان في وضعنا..... مصيبة .... بل كارثة ...

ـ هل هربت لا سمح الله مع أحدهم.

لوحت برأسها يمنة ويسرى بحركة عصبية:

ـ ليتها فعلت.

ـ ماذا؟ كيف؟

ـ مريم حامل.

هبطت المفاجأة فوق رأسي كالصاعقة....هزتني...وسرت قشعريرة في جسدي. جلست القرفصاء لا تقو ساقاي على حملي فإعانتي هي على الوقوف. قلت لها بصوت باهت كأنه خرج من أذني : كيف؟.... متى؟ ... .. هي لا تخرج.!!..... وحملها .؟..

قالت تبتلع ريقها بصعوبة وألم خيبة صارخ بعينيها: هه...هي بشهرها الخامس... بان حملها عندما دخلت عليها مرة تغير ثيابها. كانت ترتدي قمصان نوم فضفاضة. ولم استغرب وقتها وهي تستعير قمصاني وفساتيني. ظننت أنها تعمقت في الدين ولا تريد أن يرى أحدهم تفاصيل جسدها حتى أقاربنا. حامل يا أنسة...حامل...وأنا الغبية الساذجة...لم أفهم ذلك التحول...في شخصيتها وهذا الإنقلاب في كيانها...بل لم ألحظ التقيئ المستمر خلال يومها... ذلك التقزز من كثير من الأطعمة..

- كيف؟!...وممن؟...أرجوك.....سرك في بئر...مريم أختي الصغيرة...ممن ؟! كيف وهي لا تخرج من البيت.

- مرددة بصوت كالعويل:.الخـــــــــــــــــادمة..... الخــــــــــــــــــــــادمة ....

قلت: ماذا؟؟؟!

قالت هازئة:..نعم ...الخادمة لم تكن خادمة...........كان...خادم... رجل تخفى بهيئة خادمة!!!!





هناك تعليق واحد:

  1. مع الاسف عندما تنعدم لغه الحوار بين الام وابنتها ولا تستطيع الابنه ان تثق بامها ...
    والخادمه كانت ذكر ....نعم حصلت في بيروت وعند جارتي ..وتبين لها ان الخادمه ذكر ..ولكن كشف امره قبل ان يقع مكروه لهذه العائله ....
    قصه جميله معبرة وواقعيه ومن صميم مجتمتنا العربي
    اهنئك وبالتوفيق ..
    تحياتي

    ردحذف

أهلا بكم..
أشرف بتعليقاتكم..
محبتى