الاديب سعيد رفيع
فصول من رواية ( شتاء حار ) للاديب سعيد رفيع
الى روح أمي ، رحمها الله ، التي بادرتني ذات يوم بقولها : ( يا ولدي .. الرجال كثر .. ولكن الأجاويد منهم قلة .. الأجاويد كحبات الفقع .. عليك أن تشد الرحال الى مواطنها .. وأن تقلب التربة حتى تعثر عليها ) . *
---------------------------------------------------------------------------------
* ـــ الأجاويد : الرجال الذين يتسمون بالكرم والنخوة والشجاعة .
ـــ الفقع : نبات درني يشبه البطاطس .. ينمو بكميات قليلة في أعقاب سقوط
المطر في بعض مناطق الصحراء الشرقية .. والبدو يعشقون الفقع ..
ويشدون الرحال الى المناطق التي يتوقعون أن يظهر فيها .. حيث
يقلبون التربة بحثا عن حباته حتى يجدوها .
।......
الفصل الاول
ـ 1 ـ
تقول نوره أن الزواج تم في الغردقة ، حيث يقيم أهلها وأهله ، وحيث يعمل ابراهيم في الكوبانية الانجليزية التي تنقب عن النفط ، ثم تعرج الى الحديث عن العرس ، الذي أقيم في الباحة الكبيرة التي تتوسط بيوت العرينات ، وقبل أن تدلف لوصف ما جرى في العرس ، تحرص على أن تلفت انتباه النسوة الى أن قيمة العرس تقاس بعدد الذبائح التي نحرت فيه ، وهنا تشرع سبابتها لتقول أن ثمانين ذبيحة ، مابين خروف وتيس ، ( طاحت ) في ليلة الزفاف .
بعد ذلك مباشرة تبادر نوره الى وصف تفاصيل العرس ، وأسماء أبرز الرجال والفتيان الذين اظهروا مهاراتهم في فنون السامر ، ولا تنسى أن تؤكد أن رجال العرينات وفتيانها فاقوا في مهارتهم سائر الرجال والفتيان من القبائل الأخرى ، بما في ذلك رجال وفتيان الرشندية الذين شاركوا في العرس ، مجاملة لجيرانهم ، ولا يفوتها في خضم الحديث عن الرجال والفتيان ، أن تذكر أن العرس لم يخلوا من رقص النسوة ، اللاتي استعرضن مهاراتهن في الرقص على اهازيج الرفيحي (1) والمتينة (2) ، وهنا تتوقف نوره فجأة عن الحكي ، وتتفرس في وجوه النسوة ، ثم تواصل الحكي بقولها أن نساء العرينات لا يسمح لهن بمباشرة الرقص الا بثياب سوداء فضفاضة ، وأنه يتعين على المرأة عند الرقص في الاعراس أن تخفي رأسها بالمسفع (3) ووجهها بالنقاب ، حتى لا يرى منها سوى عينيها ، وحتى يستحيل التعرف عليها أو تمييزها من بين النسوة ، فذلك شرط ضروري لا يتنازل عنه الرجال العرينات ، وترضخ له النسوة عن بكرة أبيهن .
ولا يغيب عن نوره ابدا ان تذكر أن ابراهيم ليس بغريب عنها ، بل هو من ذات القبيلة ، وانها فخورة بالزواج منه ، لأنه الوحيد من بين فتيان العرينات الذي اصطفاه الانجليز للعمل معهم في الكوبانية ، وأن سائر الفتيان كانوا يحسدونه على ذلك ، خاصة بعد أن عرفوا أن اجره في اليوم الواحد كان يتجاوز العشرة قروش ، هذا بخلاف التموين الشهري الذي كانت الشركة تمنحه للعمال مجانا ، والذي كان يتكون من الدقيق والزيت والسكر والشاي والارز .
--------------------------
(1) الرفيحي : غناء ورقص جماعي للرجال يتميز بسرعة الايقاع تشاركهم فيه النساء في الرقص فقط .
(2) المتينة : غناء ورقص جماعي للرجال يتميز ببطء الايقاع وتشاركهم فيه النساء بالرقص فقط .
(3) المسفع : غطاء للرأس من قماش اسود خفيف .
وكالعادة كانت نوره لا تكف ، خلال سردها لهذه الحكاية بالذات ، عن تحسس أثر ذلك الجرح القديم الذي يتوسط جبهتها ، والذي طغى اثره على الوشم الأخضر الأكثر قدما ، الذي كان يزين تلك الجبهة ، ولكن رغم طغيان أثر الجرح على الوشم ، فقد كان
هناك وشم اخر ظل متماسكا ، وظل يحتفظ بلونه فوق الشفة السفلية ، يتفرع منه وشم
ثالث دقيق ، ينطلق من منتصف الشفة ، ثم ينزلق الى أسفل في شكل عمودي ، حتى ينتهي عند منتصف الذقن .
لم يكن هذا فقط هو الذي يميز وجه نوره ، بل كانت صفحة الوجه ناصعة البياض ، وكانت العينان السوداوان ، الكحيلتان على الدوام ، تضفيان على الوجه ملاحة ، تطغى على بقايا تلك الندوب الصغيرة في الوجه ، والتي تنم عن اصابة قديمة بمرض الجدري .
هنا بالتحديد تكون نوره قد دخلت الى قلب الحكاية ، فتعود لتتحسس جبهتها للمرة الرابعة أو الخامسة ، ثم تواصل الحكي بقولها أنه بعد عامين من الزواج عاد ابراهيم من عمله مهموما على غير العادة ، وقبل أن تسأله عما به ، باغتها بقوله أن الكوبانية قررت نقله من الغردقة ، مع مجموعة أخرى من العمال الى رأس غارب .
- رأس غارب ؟!
- نعم .
- وهذي وين اراضيها ؟
لم يجب .. واكتفى بأن شرع سبابته صوب الشمال ، ولكن نوره ، التي لم تصدق أذنيها ، والتي بدا انها شعرت بالخطر ، أو ربما بالحيرة ، عادت تكرر سؤالها من جديد :
- وهذي وين اراضيها ؟!
- مسيرة نهار بالعربية .
هرعت نوره الى المطبخ لتطفىء الوابور ، ثم عادت مسرعة ، وجلست الى جانبه مباشرة فوق السرير ، وهي التي اعتادت أن يجلس هو فوق السرير ، وان تجلس هي
على الأرض ، ويبدو أن ابراهيم ادرك أن نوره سوف تواصل سيل اسئلتها ، فبادرها قائلا :
- لقوا فيها زيت .. ويبغون لها عمال . - وما لقوا عمال غيرك ؟!
- هذي اوامر لي ولغيري .
صمتت برهة .. ثم عادت الى اسئلتها :
- يا ولد الناس .. ليش ما تكلم الباش ريس يخليك في الغردقة ؟
- الباش ريس نفسه هو اللي كتب اسمي .
- طيب ليش ما تكلم الخواجة ؟!.
لم يعقب ابراهيم ، اذ كان يدرك أن الباش ريس لا يجرؤ على ان يقول شيئا أو يفعل شيئا دون اوامر من الخواجة شخصيا ، فالباش ريس مجرد منفذ لتعليمات الخواجة التي تخص العمال ، أما الخواجة فانه متفرغ تماما للأمور الكبيرة فقط ، فهو الذي يتابع ، مع فريق من المهندسين الانجليز ، كل الأمور التي تتعلق بالتنقيب والانتاج ، كما يشرف على كبار الموظفين الاداريين والفنيين المصريين ، أما صغار العمال من أمثاله فقد كان أمرهم متروكا تماما للباش ريس ، الذي كان مسئولا عن ادارة جميع الأمور التي تخصهم ، بما في ذلك نقل كل ما يتردد بينهم من أحاديث الى الخواجة ، فالتجسس على العمال كان من صميم عمل الباش ريس ، وكان يرفع تقارير شفهية بذلك الى الخواجة مايك ، كبير الخواجات على الاطلاق ، خاصة وان الباش ريس كان على دراية بكثير من مفردات اللغة الانجليزية ، بحكم احتكاكه المستمر مع المدير الانجليزي .
كان الباش ريس صعيديا ، وكعادة أهل الصعيد كان يرتدي الجلباب والعمامة طوال الوقت ، حتى في أوقات العمل ، التي كانت تبدأ عادة مع انطلاق صافرة الشركة في السادسة صباحا وحتى الساعة الثالثة بعد الظهر . كان الرجل ضخم الجثة ، ذا شارب كث ، يرتفع طرفاه الى جانبي أنفه ، وكان يرى على الدوام ، وهو يجوس في الرمال ، متنقلا بين مواقع الانتاج والتنقيب ، حاملا عصا غليظة على كتفيه ، خلف رأسه ،
بينما يقبض بطرفي العصا بكفيه ، وعندما يراه العمال من بعيد يكفون عن الثرثرة فورا ، ويتفرقون في الموقع ، ويتشاغل كل منهم بما هو مكلف به ، ويظلون على حالهم هذا حتى ينصرف الباش ريس ، فيتنفسون الصعداء ، ويواصلون عملهم ، ولكن دون توتـر ، ثم لا يمضي وقـت طويل بعد ذلك حتى يهدأ ايقاع العمل ، لتبدأ الثرثـرة من جديد .
استمر الحوار طويلا بين ابراهيم ونوره ، ثم انتهى فجأة بكلمة واحدة : ( خلاص يا بنت ) ، قالها ابراهيم ، وهو يشيح بكفه في وجهها ، فنهضت على الفور ، واتجهت الى المطبخ لتشغل الوابور من جديد ، بينما استلقى ابراهيم على سريره ، ملقيا بناظريه صوب سقف الغرفه ، وظل على حاله هذا ، حتى ارتفع صوت شخيره ، الذي وصل الى نوره في المطبخ ، رغم الضجيج المتصاعد من الوابور .
كانت نوره تعرف جيدا متى تتحدث مع ابراهيم ، ومتى تلتزم الصمت ، وكانت تعرف أن الجدال معه مغامرة محفوفة بالمخاطر ، فقد ينتهي الجدل بأن يصرخ في وجهها ، ثم يأمرها بالخروج من الغرفة ، فرأت أن تفعل ذلك طواعية ، على أن تعاود الحديث معه في وقت لاحق ، اذ كان لا يزال رأسها متخما بالكثير من الاسئلة ، منها مثلا : هل سيرحل الى رأس غارب منفردا أم سيصحبها معه ، واذا لم يصحبها ، فهل
سيغيب عنها بضعة شهور أم بضع سنوات ، اسئلة عديدة راحت تدور في رأسها ، لم
تفق منها سوى على رائحة الكيروسين التي تصاعدت من الوابور ، بعد أن غلى الماء في الصفيحة ، فتساقطت قطراته بكثافة فواق الوابور لتخنقه ، وتطفىء النار .
تعرف نوره جيدا أن ابراهيم كثيرا ما يفقد اعصابه عندما تتجادل معه ، وهي لا تغضب من ذلك ابدا ، لانها تعرف أنه طيب القلب ، وان عصبيته الزائدة في بعض الاحيان
غالبا ما تخفي وراءها مشكلة ما تؤرقه ، فهو عزوف عن الشكوى ، هو من ذلك النوع من الرجال الذين يحرصون على عدم تصدير مشاكلهم أو مواجعهم الى الآخرين ، هو يفضل أن يواجه تلك المواجع وحده ، ولا يضطر الى البوح بها الا بعد أن تشتد ، وتستحكم حلقاتها حول رقبته حتى تكاد أن تخنقه ، حينئذ فقط يشرع في البوح بها الى نوره ، أو الى احد اصدقائه المقربين .
نوره تعرف كل ذلك عن ابراهيم ، وتعرف ان تلك القسوة الظاهرة التي يتعامل بها معها احيانا هي قسوة مزيفة ، بل هي مجرد ستار يخفى قلبا محبا غاية في الرقة .. نعم .. هي تعرف كم يحبها ابراهيم ، وكم يهيم بها ، هي تشعر بذلك الحب وهو يتدفق
من ابراهيم اليها عندما يقبلها ، او يحتضنها ، كما تشعر بارتباكه وقلقه عليها عندما
تمرض ، أو تشكو ، أو تتوجع ، وهي تذكر كيف كان يسهر بجوار فراشها طوال الليل ، عندما اصابتها الحمى بعد زواجها منه ببضعة اسابيع ، كان يضمد جبهتها بالماء البارد ، ويغلي لها الحرجل والحلفا بر ، وعندما اشتدت بها الحمي ، وصارت تهذي ، احتضنها ، وشعرت بدموعه تنسكب من عينيه ، لتمتزج بعرقها ، الذي ينهمر من جبهتها .
وأكثر من ذلك فان نوره تدرك أن زواجها من ابراهيم لم يكن سوى خاتمة لقصة حب طويلة بينهما ، قصة حب صامتة ، كانت تعيش لحظاتها حينما تتقابل معه بالصدفة في دروب النجع ، فتبث لها عيناه رسائل دافئة من الحب ، وتتلقفها عيناها ، وتعيد بثها اليه بنفس الدفء والحرارة .
لا تنسى نوره ذلك أبدا ، كما لا تنسى أن ابراهيم كان مخلصا لها حتى النهاية ، فعندما تقدم الى خطبتها لم يلق قبولا من أبيها ، ليس لعيب فيه ، ولكن لأن أباها ، شيخ القبيلة ، كان يفضل تزويجها من ابن شقيقه ، ومع ذلك فان ابراهيم لم يستسلم لهذا الرفض ، بل واصل تمسكه بالزواج منها ، وأرسل وفودا متعاقبة من كبار رجال القبيلة الى ابيها ، ولكن الأب كان يرفض وساطة الوفود ، وكان ابراهيم من جانبه لا يمل من ارسال وتوسيط كل من يعتقد أنه قادر على اقناع الشيخ بالموافقة .
وأمام اصرار ابراهيم ، وتدفق الوفود الى بيت الشيخ ، وافق الرجل مضطرا على الخطبة ، ولكن بعد أن وضع شروطا قاسية ومجحفة لاتمامها ، وكان يعتقد أن قسوة الشروط كفيلة بأن يصرف ابراهيم النظر عن الموضوع ، ولكن ابراهيم لم يفعل ، بل وافق على الفور ، فلم يجد الشيخ أمام ذلك سوى الرضوخ ، فتمت الخطبة ، ولم يمض وقت طويل بعد ذلك حتى زفت نوره الى ابراهيم ، بعد عرس بهيج لم تشهد له عربان الغردقة مثيلا ।
....
الفصل الثانى
_ 2 _
في رأس غارب أقام ابراهيم مع عديد من العمال في أحد عنابر الشركة ، بينما انتقلت نوره لتعيش في بيت أبيها ، الذي لا يبعد كثيرا عن بيتها في الغردقة ، وكانت رأس غارب في ذلك الوقت مجرد معسكر كبير للعمل ، لم يكن هناك سوى مواقع التنقيب ومكاتب الشركة ومخازنها ، بالاضافة لعنابر العمال ، وسكن الانجليز ، ولم تكن هناك متاجر من أي نوع ، اذ كانت الشركة توفر لعمالها الوجبات اليومية الثلاث عن طريق مطعم كبير ، كما كانت توفر لهم الرعاية الطبية من خلال مستشفى صغير به طبيب واحد وممرض وحكيمة .
كانت الحكيمة هي الانثى المصرية الوحيدة التي سمح لها الانجليز بالتواجد في معسكر الشركة برأس غارب ، وكانت تقيم بمفردها في غرفة خاصة ملحقة بالمستشفى ، ورغم كونها مصرية الا انها كانت أقرب في هيئتها ومظهرها الى الانجليز ، اذ كان لون بشرتها أقرب الى بشرة الانجليز من بشرة المصريين السمراء ، كما كانت ترتدي زيا للتمريض على الطراز الانجليزي ، وأكثر من ذلك كانت تجيد الرطانة بالانجليزية مثل الانجليز تماما ، وكان يسمح لها بالتردد على النادي المخصص للأنجليز ، هي وبعض من كبار الموظفين المصريين ، الذين كانوا يعدون من المحظوظين ، اذ خصصت الشركة لهم مساكن قريبة من فيلات الانجليز ، وكان اغلب هؤلاء الموظفين من القاهرة أو الاسكندرية ، وكانوا على درجة عالية من التعليم ، اذ كان بعضهم من المهندسين ، والبعض الآخر من المحاسبين أو موظفي الادارة العليا ، حيث كان يسمح لهؤلاء الموظفين دونا عن بقية المصريين باصطحاب زوجاتهم واطفالهم معهم اثناء عطلات المدارس والاعياد وغيرها من المناسبات .
كانت الحكيمة صديقة لكثير من زوجات الانجليز ، اللاتي كن يترددن كثيرا على ازواجهن ، ويقمن معهم في تلك الفيلات الانيقة ، المشيدة على الطراز الانجليزي ، والتي شيدت فوق هضبة تشرف على البحر مباشرة ، بينما كانت عنابر العمال تصطف متلاصقة في السفح الذي يقع أسفل تلك الهضبة ، كانت صفوف العنابر بيضاء اللون ، كل صف يتكون من ثمانية بيوت متلاصقة ، جميعها مسقوفة بالاسبستوس ، وكان
يتوسط تلك الصفوف مسجد صغير ، يؤدي فيه العمال صلواتهم ، ومطعم تابع للشركة ، يتناولون فيه وجباتهم .
كان العمال يطلقون على الحكيمة كلمة ( سيستر ) ، وقد وجدت هذه الكلمة طريقها
الى ألسنة العمال ، مثل غيرها من الكلمات الانجليزية ، التي وجد العمال انفسهم
يلوكونها دون أن يشعروا ، مثل كلمة ( الباص ) للأشارة الى الحافلة ، و ( الميس )
للأشارة الى المطعم ، و ( الكلوب ) للأشارة الى النادي المخصص للأنجليز ، الذي يقع على شاطىء البحر مباشرة ، والذي كان يوجد به حمام كبير ، يمارس فيه الانجليز ونساؤهم السباحة ، كما كان يوجد به خماره يرتادها الانجليز مساء لاحتساء الويسكي والبيرة ، هذا بالاضافة الى عدد من الملاعب الملحقة بالنادي لممارسة لعبة التنس ، ودار للسينما تعرض فيلما انجليزيا أو امريكيا مساء كل أحـد .
كان العمال ، وكلهم من ابناء الصعيد ، ممنوعين من التردد على النادي ، بل كان يحظر عليهم مجرد الاقتراب من الفيلات التي يقطنها الانجليز ، اذ كان للعمال ناديهم الصغير الذي يشربون فيه الشاي والشيشه ، ويلعبون الدومينو ، وكانت هناك ساحة متسعة ملحقة بالنادي ، يستغلها العمال في ممارسة لعبة التحطيب ، وفي احيان قليلة كانوا يتقاذفون فيها كرة القدم في مباريات غير منظمة ، تجري بين فرق عشوائية من مختلف اقسام الشركة .
* * *
بمجرد وصوله لرأس غارب تم الحاق ابراهيم في العمل ضمن فريق الحراسة ، المكلف بحراسة المخازن والمنشأت المتناثرة في الصحراء على مشارف المدينة ، وكان يتناوب العمل مع اثنين من رفاقه ، بما يضمن بقاء حارس واحد بالموقع طوال اليوم ، وقد اكتشف ابراهيم أن رفيقيه في الحراسة من قبيلة المعازة ، وعرف منهما أن الانجليز يفضلون اختيار الحراس من هذه القبيلة بالذات ، وذلك لدرايتهم بدروب الصحراء ، واعتيادهم على الحياة فيها .
لم يكن ابراهيم يعرف حتى تلك اللحظة أن هناك تجمعا كبيرا من ابناء هذه القبيلة وراء تلك التلال التي تحد رأس غارب من الغرب ، عدد كبير من أسر المعازة هبطوا مع ابلهم وأغنامهم من الجبال البعيدة ، ونصبوا بيوت الشعر خلف التلال لتكون قريبة من شركة النفط ، ورغم أن المنطقة بأسرها كانت منطقة امتياز للشركة الانجليزية ، الا أن الشركة لم تستطع ، بل لم تفكر في طرد هؤلاء البدو الذين حطوا عنوة بالقرب من تخومها .
أسباب كثيرة دفعت الشركة الى ذلك ، منها أن المعازة يقيمون في تلك الصحراء منذ مئات السنين ، وفضلا عن أن المعازة كان بامكانهم تعطيل أعمال الشركة عن طريق الاغارة على مواقع الشركة النائية ، أو السطو على مخازنها المتناثرة في الصحراء ، لذا فضلت الشركة أن تتودد اليهم ، وأن تستخدم بعض افرادهم في العمل حراسا لديها حتى تأمن شرهم .
سر ابراهيم كثيرا عندما عرف بوجود هذا التجمع الكبير من العربان ، خاصة بعد أن توطدت العلاقة بينه وبين رفيقيه من المعازة ، ومن هنا حرص على زيارة المعازة في مخيمهم ، وحرص على التعرف على كبيرهم الشيخ سلامه ، وقابله المعازة بترحاب كبير ، خاصة عندما عرفوا أنه بدوي مثلهم ، وأنه من قبيلة العرينات الحليفة ، والتي تربطها علاقات قديمة بالمعازة ، عبرت عن نفسها في كثير من الأوقات ، خاصة اثناء تلك المعارك الطاحنة التي نشبت بين المعازة والعبابدة منذ عشرات السنين ، بسبب رغبة كل قبيلة منهما في السيطرة على المراعي المحيطة بوادي
سفاجا في الجنوب ، ولقد احتكمت القبيلتان وقتها الى شيخ العرينات ، الذي نجح في اطفاء نار المعارك ، بعد أن حكم بتوزيع المراعي مناصفة بين القبيلتين ، ورضيت القبيلتان بحكم الشيخ ، ليعود الوفاق بينهما .
ولم يمض وقت طويل حتى توطدت العلاقة كثيرا بين ابراهيم والشيخ سلامة ،
ودأب ابراهيم منذ ذلك الحين على التردد على الشيخ أكثر من مرة أسبوعيا ، وعندما كان يمر اسبوع واحد دون أن يقوم ابراهيم بزياراته المعتادة ، كان الشيخ سلامه يرسل من يدعوه لزيارته ، بل ان الشيخ كثيرا ما قام بزيارة ابراهيم في عنبر العمال ، وقد تطايرت اخبار تلك العلاقة الوثيقة بين ابراهيم وبين الشيخ سلامه حتى وصلت لأسماع الباش ريس ، وقد حدا ذلك بالباش ريس الى التقرب من ابراهيم ، حتى أن الباش ريس كثيرا ما كان يغض الطرف حينما يضبط ابراهيم متلبسا بنوبة نعاس اثناء قيامه بالحراسة المكلف بها .
كانت هناك تعليمات صريحة من المدير الانجليزي بضرورة معاملة الشيخ سلامه معاملة خاصة ، بل وبضرورة التودد اليه ، وقد بلغ ذلك التودد درجة كبيرة ، الى حد أن الشركة كانت تغض الطرف عن بعض السرقات الصغيرة التي كان يقوم بها البعض من مخازن الشركة ، والتي كان الانجليز يعتقدون أن وراءها نفرا من المعازة ، بل وأكثر من ذلك أصدر المدير الانجليزي اوامره بتوفير المياه لمخيم المعازة مجانا ، فكانت السيارات تقوم بهذه المهمة على خير وجه ، بل ان الشركة خصصت راتبا كبيرا للشيخ سلامه نفسه ، ومنحته ، هو وأفراد أسرته ميزة العلاج المجاني في مستشفى الشركة .
وقد فطن ابراهيم مبكرا للأهمية الكبيرة التي يوليها الانجليز للشيخ ، فبادر الى مفاتحة الشيخ في الأمر الوحيد الذي كان يشغله ، ولم يكن يشغله في ذلك الوقت سوى بعده عن نوره ، صحيح انها ليست مشكلته وحده ، بل مشكلة جميع العمال الذين كانت تستخدمهم الشركة ، والتي كانت عقود استخدامهم تنص صراحة على عدم استقدام زوجاتهم وأسرهم للمنطقة ، باعتبارها منطقة امتياز للشركة للتنقيب عن النفط ، وليست تجمعا للعائلات والأسر ، بل ان جميع العقود نصت في متونها على أن أي
خرق لذلك يترتب عليه انهاء خدمات العامل فورا ودون أدنى تعويض .
انصت الشيخ سلامه طويلا لابراهيم ، ووعده بالتحدث الى الباش ريس كي ينقل الأمر الى المدير الانجليزي ، اذ كان الشيخ سلامه لا يمكنه الحديث مباشرة مع المدير الانجليزي دون وسيط ، وذلك لجهله باللغة الانجليزية ، وهذا ما جرى بالفعل بعد يوم أو يومين ، وعاد الباش ريس الى الشيخ سلامه ليخبره أن الخواجه في انتظاره ،
وبادر الشيخ من فوره لمقابلته ، وتولى الباش ريس مهمة الترجمة بينهما .
وكان ملخص ما قاله الخواجه للشيخ سلامه أن الشركة تحترم الشيخ وتقدره كثيرا
، وأنها سوف تستجيب لوساطته في الوقت المناسب ، لأن خرق هذه القاعدة بالنسبة لعامل واحد سيترتب عليه مطالبة بقية العمال بالمعاملة بالمثل ، مما سيؤثر على سير العمل ، ويبدو أن الشيخ سلامه اقتنع بوجهة نظر الخواجه ، فعاد الى ابراهيم لينصحه بالتريث حتى يأتي الوقت المناسب .
انقطع ابراهيم بعد ذلك عدة أسابيع عن زيارة الشيخ ، ويبدو أن الشيخ قد لاحظ ذلك ، فبادر هو بزيارة ابراهيم ، وسأله عن سبب انقطاع زياراته ، فساق له ابراهيم كثيرا من الأعذار ، لعل أبرزها انشغاله بالعمل ، ولكن الشيخ لم يقتنع منها بعذر واحد ، اذ ادرك الشيخ بفطنته أن ابراهيم ربما يشعر في أعماقه بأن الشيخ قد خذله ، فعاد الشيخ يؤكد له أن الخواجه سوف يفي بوعده عندما يحين الوقت ، خاصة وأنه يعلم أن الشركة ستشرع قريبا في انشاء مساكن خاصة للعائلات ، لأن العنابر الحالية التي يقطنها العمال لا تصلح لاقامة الأسر ، وأضاف الشيخ أن المستشفى الحالي ، كما أخبره الخواحه ، يصلح بالكاد لتقديم الرعاية الصحية للعمال فقط ، وأن استقدام العمال لأسرهم لابد وأن يسبقه اجراء توسعة كبيرة للمستشفى الحالي ، وتوظيف عدد أكبر من الأطباء والحكيمات ، حتى يفي المستشفى بحاجات الأسر الوافدة .
استمع ابراهيم لكل ما قاله الشيخ ، وأثنى عليه لأهتمامه بالأمر ، ووعده بأنه سيغض النظر في الوقت الحالي عن رغبته في استقدام زوجته ، حتى تتبدل الظروف وتصبح مواتية لذلك ، وقبل أن تنتهي زيارة الشيخ أسر لابراهيم بقوله أنه على أتم استعداد لأن يزوجه احدى أجمل بنات المعازة ، وأن يوفر له ولعروسه بيتا في مخيم
القبيلة ، يستطيع ابراهيم أن يقيم فيه معها بدلا من اقامته بالعنبر ، وقد فوجىء ابراهيم بهذا العرض ، الذي لم يكن يتوقعه ، حتى أنه لم ينطق بكلمة واحده من فرط المفاجأة .
وقد ظن الشيخ أن صمت ابراهيم لا يعدو أن يكون تعبيرا عن الموافقة ، فانصرف وهو يردد : ( على بركة الله .. على بركة الله ) ، ولكن ابراهيم لم يلبث أن لحق بالشيخ ليشكره على منحه شرف الاقتران باحدى بنات المعازة ، ثم قرن شكره بالاعتذار عن قبول ذلك العرض الكريم ، متعللا بأن ظروفه الحالية لا تسمح له بالاقتران بأكثر من زوجة .
تقول نوره مزهوة ، وهي تتفرس في وجوه النسوة : " رفض ابراهيم أن يستبدلني بأجمل بنات المعازة ، ولو عرض الشيخ الأمر على رجل غيره لقبل على
الفور ، ولكن هذا هو ابراهيم الذي أعرفه ، وأعرف أنه لن يفرط في نوره أبدا ، حتى لو عرضوا عليه أجمل حوريات الجنة " .
كانت نوره محقة في ذلك ، فابراهيم لم يكن مجرد رجل عادي يبحث له عن انثى ، بل كان يبحث عن نوره على وجه التحديد ، نوره حبيبته قبل أن تصبح زوجته ، نوره التي احبها وأحبته ، والتي عاش معها قصة حب صامتة لمدة اربع سنوات ، رفضت خلالها الاقتران بالعديد من الشباب الذين تقدموا لخطبتها ، بعد ان اختار قلبها شابا واحدا دون سواه ، انه ابراهيم ، ولا احدا غير ابراهيم .
يضاف الى ذلك أن ابراهيم لم يكن يستطيع ، حتى لو اراد ، أن يقترن بأخرى ، فنوره لم تكن مجرد زوجة ، بل كانت ابنة لشيخ العرينات ، ولقد جرى العرف على أن من يتزوج ابنة الشيخ تحرم عليه بقية النساء ، مادامت زوجته على قيد الحياة .
ذلك أن الاقتران بضرة لابنة الشيخ لا يشكل اهانة لها فقط ، بل هو اهانة للشيخ نفسه ، واهانة الشيخ في عرف العرينات ، وكافة قبائل العربان ، هي جريمة لا يجرؤ أحد على اقترافها ، تلك جريمة أقل عقاب لها هو أن تتبرأ القبيلة ممن ارتكبها ، ومن تتبرأ منه قبيلته فلن يجد له مكانا في ربوع أي قبيلة أخرى ، بل سيظل منبوذا أينما
ذهب ، لن يجد قبيلة واحدة تقبل أن تزوجه أو تسمح له بالاقامة بين ظهرانيها ، هذا عرف نافذ كحد السكين ، تخضع له القبائل كافة ، وقبيلة المعازة ليست استثناء من ذلك ، والشيخ سلامه ، شيخ المعازة يعرف ذلك جيدا ، كل ما في الأمر أنه لم يكن يعرف أن ابراهيم كان متزوجا من ابنة شيخ العرينات ، لو كان يعرف ذلك لما فكر لحظة واحدة في أن يعرض تزويجه من احدى بنات المعازة .
وبالطبع كان ابراهيم يدرك أن ما أقدم عليه الشيخ سلامه قد تم بحسن نية ، وأن الشيخ لم يكن يرمى سوى الى مساعدته ، اذ ظن الشيخ أن ابراهيم ، مثل كل الرجال ، في حاجة الى امرأة تؤنسه ، وتبدد ذلك الجو المقبض الذي يخيم على معسكر الشركة ، ولكن عندما علم الشيخ بالأمر ، ربت على كتف ابراهيم ، وكأنما يعتذر ، وكانت أخر كلماته لابراهيم قبل أن ينصرف : ( يصير خير .. وحياة خشمي ) ، قالها وهو يشير بسبابته صوب أنفه .
.....الفصل الثالث
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بكم..
أشرف بتعليقاتكم..
محبتى