السبت، 11 سبتمبر 2010

تاكســــي قصة قصيرة للاديب التونسى/ ابراهيم درغوثي






تاكســــي

قصة قصيرة



بقلم الاديب التونسى/ ابراهيم درغوثي



وأنا اقترب من بحر « حلق الوادي » رأيت الشّمس تطلع من وسط الماء. شمس حمراء وكبيرة. نورها باهت لا يؤذي العين. حدّقت فيها مدّة. رأيتها تنفض عنها الماء العالق بها من كلّ الاتجاهات وتنتفض لترتفع رويدا رويدا في الفضاء ككرة من لهب.

شققت بسرعة كبيرة الطريق الرّاقدة فوق بحيرة «تونس» وأنا أطرد النّعاس عن أجفاني وأشعل سيجارتي الأولى.

واشتعلت في وجهي أضواء الشّوارع:

الأحمر.

والأخضر.

والبرتقالي.

وداس أصحاب السيّارات على الفرامل فدُست على فرامل سيّارتي بعنف. وأزّت العجلات فبدأت ألعن.

وتحرّر جسمي من سلطان النّوم.

***

شوارع المدينة مازالت خالية.

وشرطي المرور يحرّك يديْه في كلّ الإتجاهات.

والعربات تمرق من أمامه دون أن تلتفت إلى إشاراته. تحرّكت أقطع هذه الشوارع جيئة وذهابا ولم أتلقّ نداء الرّكاب. مررت من شارع «بورقيبة» فباب « الجزيرة » فباب « الجديد » فبـــاب « بنات ».

خبطتني روائح نفّاذة :

رائحة ماء الرّجال المسكوب عند ملتقى الأفخاذ.

وفُساء أطفال صغار.

وضراط العجائز وهنّ يغتسلن قبل مقابلة الرّب.

كانت الروائح تزداد حدّة كلّما توغلت أكثر في شوارع المدينة العتيقة.

ثمّ فجأة يقرع النّداء سمعي:

- تاكسي...

تاكسي ...

أضغط على الفرامل ببطء .

يجري كهل باتجاه السيّارة

يسبقه شاب فيفتح الباب ويرتمي على الكرسي الخلفي ويصيح :

- باب الخضراء ! « ياسيّد! »

أستمع إلى لعنات الكهل فلا أحفل بها.

ويزمجر المحرّك من جديد.

***

الحياة بدأت تدبّ في المدينة الخارجة لتوّها من سباتها.

نساء بجوارب مشدودة بعنف على ربلات السّيقان المكتنزة ينزلن من العمارات الكئيبة.

رجال يهرولون باتجاه محطّات الحافلات.

أطفال المدارس في كلّ مكان .

و...تاكسي نهج الباشا.

تاكسي ...باب سعدون

تاكسي ...منّـوبــة

تاكسي ...مونفلوري.

تاكسي ...أريانة

تاكسي ...ولا أتوقّف فهذا العجوز سيجعلني ألعن ككافر قبل أن يركب وأسبّ كلّ شياطين العالم حين هبوطه من السيّارة.

تاكسي ... مستشفى عزيزة عثمانة.

تاكسي ...Place Pasteur s’il vous plait monsieur

وتعاكسني الشمس. تنعكس أشعّتها على واجهات المغازات فأضع نظّارتي وأتفرّج على العالم بالأسود والأبيض...

تاكسي ...مقبرة الزلاّج. وتفتح باب السيارة الأمامي وتجلس بجانبي. شابة جميلة. تحمل بين يديها باقة أزهار.

البنت تحضن الباقة والباقة كبيرة. أزهارها رائعة وفوّاحة.

البنت تدسّ الباقة في صدرها وتضغطها فوق النّهدين.

النهدان يصرخان من شدّة الضّغط.

وأنا أراقب البنت. وجهها لا يوحي بشيء.

أحاول البحث عن الحزن في قسماته فلا أجده.

أشغّل مسجّل السيّارة. يقرأ عبد الباسط عبد الصمد من قصار السّور. الفاتحة والفلق والنّاس والكوثر و« يا أيّتها النّفس المطمئنّة ارجعي إلى ربّك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي».

يقرأ آيات من سورة البقرة ، من سورة يـس، من الحاقة، من الرّحمان ، والبنت لا تلتفت إلى ترتيل المقرئ .تواصل ضغط باقة الزهور بين نهديها ومراقبة المارّة على جانبي الطّريق.

أدخل باب الجبّانة.

تستقبلني رائحة الموت والفناء ويهزّني الخوف.

أتلهى بعدّ أشجار السّرو النائمة في كلّ مكان.

وتضع البنت في يدي ورقة نقدية ذات عشرة دنانير وتطلب منّي أن أترقّبها عشر دقائق فيرتفع ترتيل المقرئ وتحطّ الآيات على شواهد القبور.

تخفق أجنحة الطيور النائمة على الأشجار القريبة وتتململ أشجار الزّيتون.

وتمرّ الدّقائق ولا تعود البنت .

أترقبها دقيقة أخرى .

يمرّ من أمامي أسراب من زوّار الجبّانة.

نساء ملتحفات.

بنات كالزّهور البريّة.

كهلة تمسك طفلة تلبس ثيابا سوداء.

الكهلة تمسح دموعها والطفلة تغنّي : مَامَا زَمَنْهَا جَيَّة! وتصل الشّابة تفتح من جديد باب السيّارة وتجلس بجانبي.

تُخرج من حقيبة يدها علبة وفرشاة وأحمر شفاه.

ترتّب زينتها من جديد. تضع قليلا من الأحمر الباهت على شفتيها وتمرّر الفرشاة برفق على وجنتيها وتهمس:

- شارع باريس من فضلك.

أشغّل المحرّك وألمس دوّاسة البنزين برفق فتتحرك السيّارة وتمرق قريبا من شواهد القبور.

أجتاز جسر« باب عليوة » فتتساقط النّداءات على السيّارة من كلّ الاتجاهات.

- تاكسي...

-تاكسي ...

والشوارع المتخمة بالمارّين أصبحت الآن لا تطاق.

روائح البنزين المحروق تخنق الأنفاس. وصهد الإسفلت يكوي الوجوه.

وأصل شارع باريس فتدفع البنت وتنزل.

أقول :بقي لك ديناران!فلا تردّ على ندائي.

وتتّجه مزهوّة بفستانها القصير الذي يكشف عن لحم كالآبنوس صوب مغازة « النّجم السّاطع » .

ولا تلتفت.

***

عند منتصف النهار، يشتد الزّحام ويدخل الحلبة أطفال يعملون بالوكالة.

يجري أحدهم كالرّيح العاصف بجانب السيّارة. يضع يده على مقبض باب التّاكسي ويجري معه إلى أن يتوقّف.

يشير إلى من اكترى خدماته أن تعال.

يصل شيخ مكدود أو امرأة أنيقة تدقّ الأرض بكعبها العالي. يقبض الطفل أجرته.

يتفحّصها بنظرة واحدة ويضعها في جيبه.

وإلى سيّارة أخرى...

يندفع سريعا ولا يتوقّف

مرّة دهسْت أحدهم. صدَمته مقدّمة السيّارة فسقط أمام العجلة الأولى التي طحنت صدره.

نزلت ألعن وأسبّ العالم.

رأيت في عينيه الغائمتين بساتين خضراء تذبل وأزهار تذوي وينابيع ماء تغوص في تخوم الأرض.

أَسْلَمَ الرّوح أمام باب المستشفى وبقيت شهرا بدون عمل ثمّ عدت من جديد إلى صخب المدينة.

***

تاكسي...

تاكسي ...

وأمر ولا أقف .

صرت أتفادى العجائز والشيوخ في هذه الزحمة اللعينة .

أقف عند إشارة المرور فتنادي شابة هيفاء :

  • تاكسي ...

وتقتحم السيارة وتهتف :

- العمران الأعلى من فضلك .

ويغزو عطرها أعصابي. يدمرني تدميرا لذيذا .

أمر وسط غابة البلفدير فأتذكر وعدي للأطفال بزيارة حديقة الحيوانات . وعدتهم بالزيارة منذ أكثر من ثلاثة أشهر . ولم أف بالوعد .

وتخطر ببالي البنت الصغيرة وهي تقلد حركات القرد. والولد الذي لا يكف عن الحديث عن الأسد . يرتمي في حضني ويدفعني إلى الأرض ويزمجر كأنه في الغابة العذراء ثم يرميني بأعواد "الكاكي" التي كان ينوي دسها في حوض السمك .

وتتنهد أمه محتجة :

-كم اشتقت إلى جلسة في المقهى المقابل لبركة الإوز .

وتذهب لتنام في فراش البنت .

وتدخل هبة نسيم من النافذة المفتوحة فتحرك من جديد العطر الذي ما انفك يقتلني .

ويهبط دوار خفيف إلى رأسي فتهرب مني السيارة ولا أقدر على ردها إلى الرشد إلا بمشقة .

وأرفع صوت الراديو ، فتشير الشابة إلى بناية ذات طابقين وحديقة جميلة . وتدفع دون أن تلتفت إلى العداد . فأحييها بضربة "كلاكسون" وأعود إلى حمى الشارع .

و تاكسي ...

تاكسي ...

***

حين امتدت الخطوط الحديدية تقسم شوارع المدينة إلى شطرين ظننت أن رزق العيال قد ضاع وأن "الميترو" لن يترك لنا قضمة خبز . لكن رحمة ربك كبيرة . جاء الزبائن من كل مكان :

من تطاوين وتوزر .

من غار الدماء وسليانة .

من سيدي بوزيد وقبلي .

من مساكن والهوارية .

كانوا يسألون عن مستشفى الأمراض الصدرية ، وجامعة تونس الأولى ، ومارستان المجانين ، ووزارة العدل ، والجامعة الوطنية لكرة القدم ، والديوانة التونسية ، ومطار تونس قرطاج الدولي ، وملعب المنزة .

والسماء السابعة .

وكانوا يبحثون عن الدواء الشافي من الأمراض السرطانية الخبيثة ، وعن ربح قضية في محكمة التعقيب .

وعن زوج هرب ولم يعد .

وعن ابن ضال .

وعن نجاح في البروموسبور .

وعن بركة سيدي محرز.

وعن جنة الخلد التي وعد الله بها المتقين .

وعن ... نسيت عن ماذا ...

عن كل شيء ... وعن لا شيء ...

هبط هذا الطوفان الرحيم علينا من السماء .

جاءوا بخبثهم وطيبتهم .

بفقرهم ودراهمهم .

بفطنتهم وسذاجتهم .

بحقائبهم الجلدية الثمينة وبقفاف سعف النخيل .

وحطوا الرحال على جنبات الطرق .

ماكانوا يعرفون توقيت الميترو ولا محطات الحافلات التي تأتي ولا تأتي . فالتفتوا إلى سيارات التاكسي وأهملوا البقية .

صرت لا أجد وقتا للغداء .ولا أعود إلى البت إلا متأخرا . فتحدثني البنت عن القردة . ويقلد الولد أصوات الغابة . وتضع الزوجة عشائي على الطاولة متأففة . فأمضغ العشاء في تكاسل . وأغتصبها . وأنام حتى الفجر .

***

و...تاكسي

يأتي الصّوت مسْترحما ، مسْتغيثا ، مسْتعطفا.

يأتي الصّوت آمرا، زاجرا.

يأتي الصوت لطيفا ، حنونا .

يأتي الصّوت جهوريا ، غليظا ، فيه عجرفة وغطْرسة .

يأتي الصّوت منغّما كهتاف الملائكة.

يأتي الصّوت قاصفا كالرّعد.

يأتي الصّوت كهسيس الماء.

فأختار زبائني من خلال أصواتهم. أفرمل بغتة إذا هزّني النّداء الحنون. وأعود بالسيّارة إلى الوراء مسافات طويلة إذا أحسست بسحر الصّوت وأفرّ كمن تجري وراءه كلاب جهنّم إذا أفزعني زعيق المنادي.

أواصل الدّوران من ساعة السّاعات الأربعة التي آوت في أيّامها الأولى حصانا وفارسا من البرونز إلى السّاحة التي يقف فيها رجل يضع على كتفيه برنسا علاه الصدّأ ويفتح بين يديه كتابا لم يعد يقرأ فيه أحد.

بدّل الجميع الكتاب بالهمبورغر وكؤوس العصير وأفلام عادل إمام وهمّام في أميستردام و...

تاكسي...

تاكسي...

***

وتسقط الشّمس في البحر .

شمس حمراء وذابلة .

شمس تتدلّى من السّماء بخيوط لامرئية تشدّها شدّا فتتملّص من القبضة الحديدية وتغوص رويدا رويدا في الماء الذّي صار بلون الذّهب المذاب.

فأهرب من زبائني وأعود إلى الموعد الذي قطعته لزوجتي منذ ثلاثة أشهر.

أضْربُ بحيرة تونس بعصايا فتنفلق إلى شطرين ويمتدّ فوقها جسر كثعبان خرافي.

تمرّ السيّارة فوق الجسر خفيفة تكاد تطير. وأقرأ الفرحة في عيني زوجتي ساعة الوصول .

الليلة سنتعشى على حافة البحر.

سنأكل السّمك المشويّ.

وسأشرب البيرّة.

ولن تنام زوجتي في فراش البنت هذه الليلة.

و...تاكسي...

تاكسي...

قلت: ثمن « حارّة بيرّة »

وفرملت.

جلس الأوّل ورائي.كان ودودا. وجهه وجه مخنّث وابتسامته تغري الطّامعين. وجلس صاحبه بجانبي. كان يمضغ «الشوينغوم» وكان قرطا ذهبيا يتدلّى من شحمة أذنه اليسرى.

قال الجالس ورائي:

- روّاد من فضلك ياسيدي!

وصَمَتَ ، فشغّلت مسجّل السيّارة ورحت أدندن مع مطربة خليجية لحنا راقصا وأنظر بين الحين والحين في المرآة العاكسة. إلى أن بلغنا الغابة فخفّفت من السّرعة في المنعرجات الخطرة المكسوّة بالأشجار من الجانبين.

لم أنتبه لحركة الشّاب الجالس ورائي لكنّني أحسست بوخزة في جنبي.

شيء حاد ينغرس في خاصرتي ويؤلمني.

حين التفتّ إليه طلب منّي أن أركن السيّارة خارج الطّريق المعبّدة وأن أمكّنه من الدّراهم الموجودة في الصّندوق.

حاولت الإفلات من وخزة السكين وطلب النجدة إلا أن خبطة على صدغي شلت حركتي .

ورأيت حبلا يطوق عنقي ويربطني بالكرسي .

وبدأ الضغط يسرق مني الأنفاس .

في العتمة ، رأيت السيارات تمر في الإتجاهين ، مسرعة هادرة .

ورأيت الأضواء تلمع وتنطفىء .

لكن أحدا لم يلتفت لما يجري على جانب الطريق.

وكنت على وشك تسليم الروح ...

تاكسي ...

تاكسي ...

dargouthibahi@yahoo.fr

www.arab-ewriters.com/darghothi/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بكم..
أشرف بتعليقاتكم..
محبتى