الأحد، 17 أكتوبر 2010

شتاء حار‮:‬ أبناء الصحراء....بقلم الاديب: حمدى البطران



شتاء حار‮:‬

أبناء الصحراء


الروائى سعيد رفيع




بقلم الاديب:
حمدى البطران
.............




................

تزخر مصر بأعداد هائلة من المبدعين والكتاب المتميزين،‮ ‬وهؤلاء المتميزون لا يعيشون في القاهرة,‮ ‬ولم يرهقهم ضجيجها وصخبها وتوترها،‮ ‬بل فضلوا أن يعيشوا في الأقاليم التي أنجبتهم‮ ‬،‮ ‬وهو ما أغفله النقاد في مصر،‮ ‬فلم يحاول أحد النقاد البحث في العلاقة بين بقاء الكاتب في موطنه وصدقه الفني في أعماله وإبداعاته،‮ ‬أعمال الكتاب المقيمون في الأقاليم تمتاز دوما بالصدق الفني،‮ ‬ودقة الوصف،‮ ‬وسهولة التعبير،‮ ‬ويكشف هؤلاء عن بيئة خصبة ومليئة بعناصر الحياة،‮ ‬مما يجعل قراءة أعمالهم نوعا من المتعة التي قد نفتقدها في بعض أعمال الكتاب الذين كتبوا عن تلك البيئات وهم بعيدون عنها‮. ‬
الروايات المصرية التي تعالج البيئة الصحراوية الشرقية المجاورة للبحر الأحمر قليلة،‮ ‬وربما نادرة،‮ ‬هي منطقة تجمع ما بين المنطقة الصحراوية والساحلية،‮ ‬وفضلا عن ذلك فتلك المناطق البكر تضم أناسا عودوا أنفسهم علي مشاق الحياة وصعوبتها‮. ‬
صبري موسي أحد هؤلاء الذين كتبوا عن الصحراء الشرقية في روايته فساد الأمكنة‮. ‬
فعندما نشر صبري موسي روايته في منتصف السبعينات قيل وقتها إن هذه الرواية تعد واحدةً‮ ‬من الروايات التي جعلت الصحراء فضاءً‮ ‬لها،‮ ‬وبذلك تعد نموذجا لرواية الصحراء بامتياز،‮ ‬فقد تجلّي المكان الصحراوي بكل سماته في مقومات العمل السردي الذي كتبه صبري موسي،‮ ‬وظهر علي وجه الخصوص علي الشخصيات التي تمثّلت قيم المكان،‮ ‬وأنساقه المتعددة‮.‬
ما ينطبق علي رواية فساد الأمكنة لصبري موسي ينطبق تماما علي رواية شتاء حار لسعيد رفيع مع فارق زمني قدره أربعون عاما واختلاف الموضوعات والشخصيات التي عالجها كل منهما‮. ‬
تختلف معالجة سعيد رفيع لروايته‮ »‬شتاء حار‮«‬،‮ ‬عن معالجة موسي صبري لروايته فساد الأمكنة،‮ ‬ولا تقارب بينهما في أي شئ سوي أن الصحراء كانت مسرحا ومكانا لكل من الروايتين،‮ ‬أبطال صبري موسي أجانب‮ ‬غرباء علي المكان‮. ‬أما أبطال سعيد رفيع فهم أبناء الصحراء،‮ ‬وهؤلاء هم الذين شكلت الصحراء خصائصهم الاجتماعية‮.‬
يتقمص سعيد رفيع دور الراوي الذي يعي كل التفاصيل‮. ‬
تبدو الرواية كقصيدة شعر,‮ ‬وكشعراء العرب القدامي استهل رفيع حكايته علي لسان البطلة نوارا بالفخر بالقبيلة،‮ ‬والعرس الضخم الذي أقيم بمناسبة زفافها إلي حبيبها إبراهيم,‮ ‬وعدد الذبائح التي نحرت،‮ ‬وأسماء أبرز الشباب الذين أظهروا مهاراتهم في فنون السامر,‮ ‬ولا تنسي نوارا ان تذكر أسماء رجال قبيلتها العرينات وفتيانها الذين فاقوا في مهاراتهم فتيان القبائل الأخري‮.‬
ثم يبدأ الراوي في الدخول الي التفاصيل الدقيقة في حياة البدو في منطقة البحر وعادات الزواج والاحتفالات,‮ ‬وغيرها من الطقوس الغامضة للبدو،‮ ‬كما يسرد لنا سعيد رفيع طرفا من تلك حكايات العشق التي تتم في البدو،‮ ‬والتي يرفضها تماما المجتمع البدوي،‮ ‬وعندما يكون الموت بالسكين أو الموت عطشا في الصحراء التي لا ترحم المحبين الهاربين وتصليهم من نيران جفافها وعطشها الي درجة الموت‮. ‬
إبراهيم بطل رواية شتاء حار يقيم مع زوجته نوارا في مدينة الغردقة في الفترة من‮ ‬1938الي‮ ‬1940‮ ‬حيث يدور زمن الرواية،‮ ‬وهي مدينة ساحلية حديثة التكوين والظهور في ذلك التاريخ,‮ ‬حيث يبدأ الميلاد الأول للمدينة مع بداية اكتشاف زيت النفط،‮ ‬لم تكن الغردقة بكل ذلك الضجيج والصخب الذي صارت عليه الآن,‮ ‬ولكنها كانت عبارة عن مجموعة من قبائل البدو‮. ‬تعيش علي الرعي والصيد وتقسيم أماكن النفوذ‮. ‬ويعد إبراهيم بطل الرواية واحدا من هؤلاء البدو العاملين في شركة البترول التي تنقب عن الزيت في الصحراء‮. ‬
إبراهيم متزوج من نوارا ابنة شيخ القبيلة بعد قصة حب ملتهبة‮. ‬ويعيش معها في كنف القبيلة في الغردقة‮.‬
في أحد الأيام يفاجئ إبراهيم زوجته نوارا بأن الشركة قد نقلته من الغردقة إلي رأس‮ ‬غارب‮. ‬
‮- ‬وهذي وين أراضيها؟‮ ‬
‮- ‬مسيرة يوم بالعربية‮!‬
يحاول إبراهيم بكل الوسائل أن يلغي قرار النقل,‮ ‬ولكنه في النهاية لا يجد مفرا من التنفيذ‮. ‬تاركا زوجته في الغردقة‮. ‬
لم تكن رأس‮ ‬غارب في ذلك الوقت مدينة صالحة لسكني زوج وزوجته‮ ‬،‮ ‬بل كانت عبارة عن معسكر كبير للعمل ومواقع التنقيب عن الزيت‮. ‬
خلال عمل إبراهيم في رأس‮ ‬غارب يتعرف علي بعض العاملين في الشركة من أبناء القبائل البدوية‮ ‬،‮ ‬وتتوثق صلته بالشيخ سلامة شيخ قبيلة المغارة في رأس‮ ‬غارب،‮ ‬ويحكي له إبراهيم عن متاعبه في ظل ابتعاده عن زوجته،‮ ‬يعرض عليه شيخ القبيلة أن يزوجه فتاة من فتيات القبيلة،‮ ‬غير أن إبراهيم يرفض لحبه الشديد لزوجته نوارا،‮ ‬يتوسط الشيخ سلامة لدي المسئولين بشركة البترول من أجل موافقتهم علي أن يحضر إبراهيم زوجته من الغردقة الي رأس‮ ‬غارب ولكن مساعي الشيخ سلامة تفشل،‮ ‬وعندها يقرر إبراهيم أن يحضر زوجته نوارا من الغردقة لأجل أن تقيم في راس‮ ‬غارب بين قبيلة مغارة‮. ‬
المشكلة تكمن في كيفية نقل الزوجة من الغردقة الي راس‮ ‬غارب‮. ‬وهي مسافة تستغرق يوما كاملا فضلا عن عدم وجود وسائل المواصلات الآمنة،‮ ‬ويرفض إبراهيم عروضا بنقلها علي الجمال،‮ ‬يتلقي إبراهيم عرضا من أحد الأصدقاء بنقل نوارا في الصندوق الخلفي لسيارة لوري تنقل الأبقار والعجول من الغردقة الي رأس‮ ‬غارب‮. ‬
وهنا تبدأ أحداث القصة الحقيقية للرواية وينجح سعيد في تصوير رحلة المعاناة القاسية التي قابلتها نوارا في صندوق السيارة الخلفي في الشتاء القارس وتلقيها ركلات أقدام الأبقار،‮ ‬ورائحة الروث وتكومها متدثرة بلفاحها في ركن الصندوق،‮ ‬كما يصور معاناة السائق وصديقه مع نقاط التفتيش التي يجلس فيها البرابرة‮. ‬ويرسم لنا سعيد رفيع جانبا من قسوة هؤلاء البرابرة بكرابيجهم الغريبة التي يضربون بها الناس،‮ ‬ويضرب لنا مثالا بما حدث مع حسين الكربان الصياد،‮ ‬وهو صياد أتهم بمحاولة تهريب الحشيش،‮ ‬فاعتقلته قوات البرابرة أربعة أسابيع،‮ ‬وعاد في نهايتها بوجه كالح متورم وثياب رثة ممزقة وجسد منحول لا تخلو قطعة منه من علامة علي ضرب الكرابيج‮. ‬وتبدو زروة المعاناة عند الاقتراب من نقطة تفتيش وفيها بربري يفتش بدقة وقد يدفعه فضوله الي تفتيش الصندوق،‮ ‬وهنا يطلب السائق من نوارا أن تنزل من السيارة قبل نقطة التفتيش لتسير بمفردها حتي تعبر النقطة ثم تنتظر بعد مسافة من النقطة في الطريق،‮ ‬خطورة الأمر أن هذا يتم ليلا وفي الصحراء وصعوبة ما يكتنف ذلك من مخاطر‮. ‬وتنجح الخطة وتنجو نوارا في اكتشاف أمرها،‮ ‬وتتجلي أيضا بعض المخاطر عندما يطلب أحد البرابرة أن يركب الي جوار السائق وصديقه في كابينة الشاحنة،‮ ‬مما يعني سهولة اكتشاف أمر نوارا‮. ‬
في نهاية الرواية تنجح نوارا في الوصول الي نجع قبيلة الغار حيث ينتظرها زوجها‮. ‬
لقد نجح سعيد رفيع في تصوير الصحراء بفنية عالية،‮ ‬وتملك أدوات القص الروائي وأدارها باحتراف‮. ‬
الرواية مكتوبة بتركيز شديد،‮ ‬وخالية تماما من الفضاءات السردية التي لا تخدم البناء الروائي،‮ ‬ومن ناحية اللغة فهي راقية،‮ ‬ومفرداتها ساهمت الي حد كبير في توصيل ما يريده‮ ‬الكاتب،‮ ‬‮ ‬مما جعل الرواية عملا فنيا راقيا‮. ‬

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بكم..
أشرف بتعليقاتكم..
محبتى