الأحد، 17 أكتوبر 2010

أوجاع العشق .. أوجاع الكتابة ، دراسة بقلم:دكتور عبد الحافظ بخيت

أوجاع العشق ..

أوجاع الكتابة

، دراسة بقلم:دكتور عبد الحافظ بخيت


رواية ( للعشق أوجاع وهذه منها )

للأديب / محمود رمضان الطهطاوي



0
Mahmood Altahtawi
0










مدخل :

هل يجوز للأديب أن يجرب كيف شاء في العمل الأدبي دون أن يكون خلف هذا التجريب منطق علمي ومنهج أدبي؟ ودون أن يكون الكاتب قد استقرا كل التيارات الأدبية والإبداعية في الجنس الذي يرغب التجريب فيه حتى يقف على البعد الفني للتجريب ويوجد آلياته بادئا من النقطة التي انتهى إليها المبدعون على امتداد التاريخ الأدبي لهذا الجنس؟

لا ادري لماذا خالطتني هذه الأسئلة وأنا اقرأ هذه الرواية التي تبدو عملا فيه حداثة ومغامرة في تجريب الشكل الروائي لكن هل نجح الكاتب في مغامرته ؟ هذا ما ستكشف عنه القراءة

  • · حكاية الرواية :

تتكون الرواية من فصلين الفصل الأول يحمل عنوان " المبتدأ" ويضم اثنتين وعشرين حكاية والفصل الثاني يحمل عنوان " الخبر" ويضم إحدى عشرة حكاية وكل هذه الحكايات يربط بينها خيط واحد هو خيط فكرى واحد

تستمد هذه الرواية حكاية بسيطة جدا ترصد فيها علاقة بين رجل وامرأة في إطار زماني مفتوح حتى أن القاص حين يدفع بطل الرواية إلى أن يذكر لهذه المحبوبة تاريخ ميلاده يذكره هكذا" 13/4/ . ."دون تحديد سنة معينة ويحاول الكاتبان ينحت هذه الفتاة نحتا في مثالية جمالية لا أظن أنها موجودة إلا في خياله ويؤكد على ذلك إسهابه في وصف العينين مثلا إذ يقول فيهما"وينظر إلى هذا الجمال القافز من هاتين العنين السوادوين المليحتين الجريئتين الحالمتين الغجريتين المشعتين بالرغبة"

فماذا أبقت هاتان العينان لبقية العيون من صفات"؟ ثم يحاول الكاتب تعميقا لهذا الجمال أن يحرك الجماد المحيط يهما وتدخل الرواية في صراع ما هو بشرى وما هو غير بشرى في تطور للعلاقة التي بدأت وليدة بين رجل وامرأة ببطء شديد إلى أن ينتهي الجزء الأول بمكاشفة المحبوبة للحبيب أنها لا تريد أحدا غيره ويتطور الأمر إلى حد التهامس والتلامس والعناق والتوحد الجسدي والروحي على حد رؤية المؤلف

ثم يبدأ الجزء الثاني بعدم التوافق بين الجسد والروح ويبدأ الصراع بينهما كل يريد أن يمارس حقه في الحياة أو يُيسّر لما خُلق له وينفتح هذا الصراع على الكون كله من خلال احتكام الجسد والروح إلى القمر وتشترك مفردات الطبيعة في رصد ورسم هذه العلاقة إلى أن تنتهي بالموت ذلك الموت الذي يدفع إلى حياة أخرى ففي مكان دفنهما تنبت الزهور والورود والصبار ويصبح مكانا مقدسا لكل العاشقين يحجون إليه

وحاول الكاتب أن يحرك عناصر الطبيعة وفق الخط البياني لهذه العلاقة الرومانسية فاشتعال العلاقة تجعلا لحياة مبهجة والزهور متفتحة وهدم العلاقة يعطى للريح فرصة اقتلاع الجذور وللفئران أن تقضى على الأخضر واليابس

وهذا الملخص يفسر عنوانيّ الفصلين فكأن المبتدأ يشير إلى بداية العلاقة وتطورها وكأن الخبر إشارة إلى خبر الموت وانتهاء العلاقة ونحن تعلمنا من اللغة أن الخبر متمم للمعنى فلا يستقيم المعنى بدون إخبار عن منتهاه

هذا ملخص الرواية ولكن الغريب أن الروائي ترك شخصيات الرواية الرئيسة من البشر دون أسماء أو كنايات وإنما سمي الرجل باسم المفتون العاشق وسمي المرأة باسم العاشقة المفتونة في حين سمي الأشياء الأخرى بأسمائها كالشباك والباب والريح والأرض والقمر والشمس وغير ذلك مما منحه الصفة الإنسانية ولا أدرى إن كان ذلك لرغبته في أن يخلق عالما موازيا لبنى الإنسان لأنه يريد أن يهجو الواقع البشرى ويستهين به ويعلى عليه الواقع المادي أم لا؟ هذا ما ستكشف عنه وجع الكتابة

  • · وجع الكتابة

تنفتح الرواية منذ البداية علي خطاب يستدرج القارئ سريعا إلي عالمها الرحب والمدهش عبر لغة معقولة تنفجر من بين طيات السرد لنجد أنفسنا في مواجهة خطاب روائي جديد ومختلف في سياق التجربة الروائية. فنحن هنا أمام مغامرة روائية جريئة تفصح في منطوقها السردي عن غرائبية تفضي إلي عالم فانتازي يسوق ذهن القارئ إلي تجربة الروائي الكولومبي الشهير جابرييل جارسيا ماركيز، والتي يبدو أنها صبغت بصبغتها عددا من الروايات العربية لعمق أثرها وتأثيرها بين الروائيين بشكل عام

ويبدو أن هذا اللجوء إلي الفانتازيا هو من اجل خلق عالم أسطوري مواز للواقع المادي خارج الرواية، ذلك الواقع الذي يضج بالغرائبية والعبثية واللامنطقية بصورة أكثر مما هي متحققة في عمل فانتازي متخيل. وبذلك تشكل الرواية عبر بنائها الدرامي المحكم وشخصياتها الممسوخة وتهكمها الصارخ أعلي هجائية للواقع وللتاريخ معا. ذلك الواقع المكتظ بالزيف والنفاق والاستبداد والتسلط والذي يسحق القيم والمبادئ ولا يقدم لإنسانية الإنسان شيئا سوي العدم

وحتى تتسع دائرة هجائيتها ونقدها اللاذع وتعريتها الشرسة للواقع والسلطة والإنسان، تحررت الرواية من عنصري الزمان والمكان اللذان يستند إليهما معمار أي عمل درامي وسردي، حتى ليبدو وكأن قولها ينسحب علي كل الأزمنة والأمكنة، وهذا الإفلات من قبضة الزمان والمكان تلجأ إليه العديد من الروايات الحديثة وينتهجه المؤلف في هذه الرواية كقيمة سردية يعمد إليها كي يفتح خطابه الروائي علي كل زمان ومكان

منذ لحظة ولوجنا إلي عالم الرواية نقتحم فضاءها الفانتازي والغرائبي حيث الأنا الساردة والشخوص ليسوا بشرا وإنما جمادات، إذ تنبجس الرواية هكذا معلنة عن أفقها الغرائبي " عندما تصادمت عيناه مع عينيها للمرة الأولى بهت الذي نظر وأصابه الوجع فقد دخلته الأنثى بعينيها لا يدرى كم مر من الوقت وهو يبحلق مدهوشا في هاتين العينين انشطر إلى نصفين عندما وجد كل من حوله يبحلق فيها مثله وينظر إلى هذا الجمال القافز من هذين العنين السوداوين المليحتين الجريئتين الحالمتين الغجريتين المشعتين بالرغبة نصف لم يستطع مقاومة النظرة والنصف الثاني توارى غرقا في احمرار الخجل كل من حولها يبحلق في جمالها شباك الحجرة اطل بعنين فاجرتين اخترقتا جمالها الفتان باب الحجرة نظر بعنين تنطلق منهما الرغبة وقال هيت لك حيطان الحجرة همست برقة دهائها اللامع وهى تأكلهما ما أجملها سقف الحجرة فضح نفسه وهو يفترس بعينيه عينيها اللمبة التي تتوسط الحجرة تداعب بضوء عينيها أهداب العينين المشرعتين المكتب الجالسة قبالته يبصبص عن قرب إما الكرسي فيشعر بالاختناق وهو مقيد تحتها يريد أن ينطلق يقفز ليشاهدهما"

وبذلك يحدد الراوي خطابه الروائي الذي يتبنى وقائع تنتمي إلي عالم الجماد أكثر من انتمائها إلي عالم البشر، الأمر الذي قد يصرف ذهن القارئ إلي أعمال كافكا الروائية وخاصة في رائعته" تحريات كلب" والتي يمثل فيها الكلب الشخصية المحورية للرواية مع أن الفرق هنا هو أن جميع شخوص الرواية هم من الجماد الشباك والباب والأرض والسجادة والقمر والشمس والطحالب والزهور وهذه الأشياء التي منحها الكاتب الصفة الإنسانية والتي تدور في فلك الحكاية الرئيس وهى حكاية المفتون مع العاشقة لم يكتف الكاتب بمنحها هذه الصفة فقط وإنما جعلها تدور في فضاء إنساني أتصور أن الكاتب نحته نحتا كما نحت صورة البطلة المحورية في الرواية وجعلها تنتمي إلى عالم الجمال المثالي المطلق فهذه الأشياء إلى حركها واستنطقها لم تقف سلبية وإنما تفاعلت مع الواقع وأصبحت فاعلة فيه فالشباك يتصارع مع الباب من اجل الفوز بهذه الجميلة بل يصل الصراع إلى حد التشاجر الفعلي وعلينا أن نتأمل هذا المقطع" وكأن الباب الساكت تملكته الغيرة من الشباك المشاغب الذي سمح للهواء بالمرور وأعطاه من شوقه ليتنزه عليها فلملم الباب بقايا الهواء المتناثر وبث فيه ذرات شوقه وأطلقها تجاه شعرها النازل فداعب الهواء الشعر ونثر غبار الشوق فتنفس الباب الصعداء واكلته النشوة فأطلق صريرا سمعه الشباك فأحس بالحالة التي وصل لها الباب العذول فكتم غيظه وصفعه بقذيفة هواء جعلته يكبل في المزلاج ونظر إليها نظرة المنتظر الظافر واخرج لسانه للمكبل وصرخ إياك أن تفعلها ثانية"

انه صراع مواز لما يحدث في الواقع وكأن الروائي في سعيه إلي تقديم شخصياته بهذا الشكل الذي يصعب الفصل فيه بين ما هو بشرى وغير بشرى يرمي إلي تسفيه الواقع الإنساني بغية نقده وتعريته وكشف زيفه وأباطيله.

وهذا التشابك القوي والحميم بين ما هو إنساني وما هو غير إنساني هو ما يرفع أعمدة هذا البناء الدرامي للرواية بوصفها فانتازيا تمسخ الواقع والإنسان لتهجوهما معا، متقنعة بأقنعة سردية تتخذ من هذه الجمادات ستارا لخطابها الجمالي والغرائبي.

  • · اللغة الوصفية

في مسيرتها السردية تنزع هذه الرواية إلي تهشيم السرد بمعناه التقليدي ، إي ذلك السرد التراتبي المنتظم زمانيا ومكانيا. فتتداعي فيها وحدة الحدث الدرامي لتتناثر علي جسد الرواية كحكايات مبعثرة فيقسم الرواية إلى مجموعة من الحكايات فالقسم الأول منها يضم اثنتين وعشرين حكاية والقسم الثاني يضم إحدى عشرة حكاية وفقا لمنطق التقطيع والتركيب والتداعي الحر والفلاش باك كأسلوب سردي اعتمده الروائي كجزء من لعبته الفانتازية. إذا فالفانتازيا هنا ليست مضمونا روائيا فقط وإنما شكل وأسلوب انتهجه الروائي ليتناغم الشكل والمضمون في توصيل خطابه الروائي.

والي جانب السرد المتقطع تخلو الرواية من الحوار إذ لا نتوفر علي أي جملة حوارية إلا ما يأتي علي لسان الراوي في سياق سرده مستنطقا به الشخصيات الأخرى، لذا فلغة الرواية يهيمن عليها مستوي واحد من مستويات السرد وهو اللغة الوضعية والوصفية فقط مع إقصاء تام للغة الحوارية. حتى ليبدو وكأن الروائي يسعي إلي الإفلات من مأزق استنطاق شخوصه من الجماد بما هو بشري وإنساني.

وقد جاءت لغة السرد في الرواية لغة مقتصدة تميل إلى الشاعرية من حيث استخدام الجمل القصيرة والمكثفة حينا والممدة حينا آخر برغم اعتماده في كثير من الأحيان الجمل الوصفية الطويلة والتي ربما تستغرق صفحة كاملة دون وقف وكأنها نشيد غنائي طويل، كما في هذا المقطع :

"لحظة جديدة أضافت إلى عمره الكثير داعبت كل كيانه المتوهج بها عندما دخلت عليه منفردا وعندما أحس بقدومها وامسك بالكتاب منغرسا فيه ودقات قلبه تصفع الباب وتقلق الشباك وتداعب نسمة الهواء الحارة التي تتحرك رغما عنها بفعل المروحة ودخلته بابتسامتها وعندما تقابلت العيون سرق الذي نظر من ذاته وانصهرت ذاته في ذاته وعندما استراحت اليد في اليد تمنى أن يناما هكذا لفعل يديها الباردتين دوما اشتعال قوى يحرق ويشوى فيتقلب قلبه على جمر روحه ويمرق الجسد المشتعل إلى كيانها "

وهذا الوصف الذي يحتل معظم الصفحة على هذه الشاكلة غير متماسك وكان يمكن اختزاله في جملة أو جملتين ويبدو أن محمود رمضان مولع بمثل هذا الوصف على امتداد الرواية ومن هنا يدخل السرد الفني في مناطق باهته وتقريرية من مثل قوله على لسان المفتونة"كيف تعاملني بهذه الطريقة؟هل فعلت شيئا أغضبك هل ضايقك في شيء هل احد قال لك شيئا هل..قل..؟

وهذه ليست لغة فنية أو توصف بأنها لغة سرد الوقوع في شرك الإسهاب جعل صوت الراوي الذي هو المؤلف يعلو صوته في مناطق كثيرة من الرواية فحين يقيم حوارا لا فنيا بين الجسد والروح يقول على لسان الروح"أنا روح أسمو عن الشهوة "فيرد الجسد " وأنا جسد خلقني الله هكذا والشهوة هي زادي ووقودي فلماذا تحرمني منها"

هذا يبدو كأنه درس تعليمي بلغة إخبارية لا تحقق لدراما الرواية أي شيء من الفنية أو تجعل الخطاب السردي متوهجا

ولكنني توقفت كثيرا أمام ملاحظتين :

الأولى : أن الكاتب استعرض ثقافاته المتعددة وأقحمها في العمل دون مبرر فني فهو يوظف دلالات دينية إسلامية دون مبرر فني من مثل اعتماده على قصة يوسف في حوار الجسد مع الروح " حتى صرخ الجسد جسدها هو , هي وقال: هيت لك قالت الروح السامقة معاذ الله" وفى حديث الجهلاء عن العشاق يوظف الدلالات الدينية المسيحية " مجانين هيا اهربوا إلى الرب اطلبوا الصفح والمغفرة"

ولقد حاول أن يبرقش سرده بقصص العشاق في التاريخ العربي دفعة واحدة في وصفه لحالة حلم أصابت المفتون الذي وجد أمامه رجلا يرتدى جلبابا ابيض ويقول المفتون وما إن بحلقت فيه حتى انخلع قلبي منى وهرولت نحوه مهللا قيس تبدلت هيئته كثير تبدلت هيئته روميو تبدلت هيئته حسن تبدلت هيئته كل هذا التبدل والتغير وهو يبتسم وأنا مندهش ثم ربت على كتفي في حنان فأحسست بدفء الأبوة يتوج كياني كله وقال : أنا كل هؤلاء وكيف تكون الكل في واحد قلت وأنا مخلوع منى انظر للذي أمامي بدهشة افترش وجهي بابتسامة وقال ولم لا ما الفرق بين كل العشاق ؟ كلهم ذاقوا عذابات العشق وجع العشق كلهم عانوا من النواميس المفرقة" هذا بالإضافة إلى حديثه عن ثقب الأوزون والبيئة وغيرها من تناثرات ثقافية أقحمها الكاتب في العمل .

الثانية : أن بعض الحكايات تخرج منفصلة أو يضع الكاتب بينها مسافات بعيدة تضعف الرابط الفكري بينها على مستوى السرد مثل الحكاية التاسعة والعاشرة من الجزء الثاني .

ومع ذلك يبقى أن نقول إن هذه الهنات لم تمنع أن يستعرض الكاتب أدواته الفنية التي يسعى دوما إلى تطويرها ليخلق لنفسه عالما روائيا جميلا وربما كانت هذه الرواية علامة على ذلك إذ يحاول الخروج على القوالب السردية المتوارثة ليبدع قوالب أخرى في منهجية التطور بآليات السرد بما يخدم الرواية أو القص بشكل عام ويضيف إليه إضافات متجددة تحفظ له كيانه وترقى به


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بكم..
أشرف بتعليقاتكم..
محبتى