الاثنين، 28 ديسمبر 2009

دراسة تاملات طائر فى مجموعة الشاعر محمود مغربى بقلم الدكتور مجدى توفيق








توازنات الطائر

قراءة نقدية فى مجموعة ( تأملات طائر )

للشاعر محمود مغربى

دراسة نقدية بقلم :

الدكتور مجدى توفيق

محمود مغربى شاعر مجيد ، قدمَّ نفسه للقراء بديوانه السابق ” أغنية الولد الفوضوى ” فكان تقديماً ممتازاً دل على شاعر لغته غنائية فياضة بالشعور وقد دلت كل كلمة من كلمات عنوان ديوانه على سمةٍ من سمات دلت كلمة ” أغنية ” على نوع اللغة الشعرية التى يستخدمها ، وهى لغة غنائية كما قلت لا تعول كثيراً على الحكى والسرد كما يعول عليهما كثير من الشعراء المعاصرين
ودلت كلمة ” الولد “على نظرة الشاعر لذاته نظرة خاصة تناسبها كلمة الولد ولعل القارئ قد لاحظ الطريقة التى يستخدم بها الناس هذه الكلمة ، وهى طريقة تتراوح بها بين معنيين متناقضين ، فهم يقللون من قيمة إنسان ما حين يسمونه بولد ، وهم يشيرون إلى البطل العظيم بأنه ” ولد “ والذات الشاعرة فى الديوان السابق تشعر بعجزها شعوراً قوياً يناسبه المعنى الأول ، وتحلم بالتغيير والثورة والمجتمع الأفضل ، فى الوقت نفسه ، حلماً يناسبه المعنى الآخر ولا يزال المعنيان حاضران فى الديوان الحالى : ” تأملات طائر “

فهو من جهة ، يقول فى مطلع قصيدته ” إلى حبيبتى بغداد ” !

يا حبيبتى
بندقيتى معطلة
لذا
لا تندهشى
عندما أفتح أبوابى للصوص
وأنحنى إجلالاً

وهو من جهة أخرى ، يختم قصيدته التى يخاطب فيها رسام الكاريكاتير الراحل ناجى العلى قائلاً:

طلاب الدرس /
وكل طوائف هذا الشعب
ينادونك
ما زالوا
لن يبهرهم ذاك الضوء المدريدى ،
إنهم الآن
يلتحقون الثورة

الموضع الأول فيه شعور جسيم بالعجز يصل إلى درجة أن يفتح الأبواب للصوص وينحنى لهم إجلالاً ، فلا فائدة من مواجهتهم ما دامت البندقية معطلة وبطبيعة الحال لن يفتح الأبواب للصوص فتحاً حقيقياً ، ولكنه يريد أن يقول إن التردى العربى ، والعجز الشديد عن مواجهة الأعداء لأغرابه معه حين يصل الأمر إلى حد إجلال اللصوص وفى الوقت الذى يبلغ فيه الوعى بالعجز هذا المدى نجد الموضع الآخر يؤكد أن روح الشعب لا تزال تلتحف بالثورة ، لا يخمد روح الثورة فيهم معاهدات السلام التى دشنتها لقاءات مدريد
فالذات من جهة ، ترى نفسها كياناً ضعيفاً عاجزاً ، وتراها ، من جهة أخرى كياناً لا يكف عن أن يحلم بالثورة والتغيير
ويبدو أن الالتباس بين هاتين الحالتين هو ما رشح للشاعر الكلمة الثالثة من كلمات عنوان الديوان السابق ، كلمة ” الفوضوى ” فهى تناسب حلم الثورة بما تدل عليه من رفض للانتماء للحاضر القائم ، وتجاوز لما هو شائع وسائد من قوانين للواقع المتردى ، ولكنها فى الوقت نفسه ، لا تبلغ حد أن تسمى الذات بالثورة ، بل تسميها بالفوضى التى طالما استخدمها أعداء الثورة والتغيير نعتاً للحلم الثورى يسئ إليه ويدينه
ونستطيع أن نقول إن الديوان الحالى يتابع الديوان السابق فى هذا كله : اللغة الغنائية البسيطة ، ذات المقاطع القصيرة التى تجعل الديوان خفيفاً على قارئه يلتهمه التهاماً ، وصورة الذات المتراوحة بين اليأس والحلم ، بين العجز والثورة
ولكن المقارنة بين العنوانين : العنوان السابق والعنوان الحالى ، يمكن أن تدلنا على تغيير جديد بين الديوانين ، فالديوان الحالى يستبدل بالأغنية التأملات ، ويستبدل بالولد الرابض على الأرض ، الجالس على المقهى يرقب السائرين والسائرات وما يحملون فى جوانحهم من قصائد ، يستبدلون بهذا كله ـ طائراً محلقاً يتأمل ذاته وحياته وعالمه الأرضى
ولا يزال الديوان الحالى ينطلق من حالة حب للحياة ـ على الرغم من اليأس كله ، والإحباط كله ـ يتجسد فى صورة محبوبة تلوح ولا يفصح عن كينونة ثابتة لنفسها فهى الوطن ، وهى الحلم ، وهى السعادة ، وهى أشياء كثيرة أخرى تتسع لها

الصباح
الذى كم تباهت به
تماماً تلاشى
رغم ذلك
لسلطانها
سطوة فى قلب عشاقها

ومع أنها تحتمل أن تكون امرأة معينة فإن الأرجح والأشد ظهوراً أنها شئ محلق كطائر الرمز ، لذا تتسع لجمهرة من العشاق لها عليهم سطوة ، واقترانها بالصباح يفسره كونها ـ من بعض الوجوه ـ شهرزاد التى تشغل الليل بالحكايات ، وتنتقل إلى الراحة مع مقدم الصباح :

(( شهرزاد
ودعت بستانها
حكاياها
رغم ذلك
تهندس المساء فى هدوء ! ))

ومن المؤكد أن صورة شهرزاد مختلفة عن الصورة الموروثة المعروفة ، فهذه قد ودعت بستانها وحكاياها ، ولكنها فى جوهرها لا تزال تهندس الأحلام طوال المساء 0 وأرجو ألا تجعلنا الأحلام نتصورها كياناً ناعماً هادئاً يمكن أن ينطوى على صورة للمرأة المشتهاه ، أو على نوع من أنشطة العزيزة ، ولكنها كيان ذو سطوة وصعاب :

قالت
عد من حيث أتيت
لا تتبعنى
فأنا نار !
قلت :
للنار سأمضى

علىّ أشعل بعضاً
من ثلج السنواتهى كيان يعد من بعض الوجوه ، ناراً يتجه إليها كالفراشة 0
ويبدو أن التباس صورتها بصورة المرأة هو الأمر الذى جعل الديوان حريصاً على الفصل بين صورة المحبوبة هذه وصورة الزوجة ، بداية من :
قالت
لا أكره زوجى المسكين
ولا أحبه
لأنه فقير
بلا بصيرة
ليدرك مباهجى
فقط
وحدك أنت
الشاهد العيان

وهذا الخطاب الذى يصدر عن لسان الأنثى يقابله مواضع أخرى يأتى فيها الخطاب على لسان الرجل العاشق

فقط
للزوجة أن تهيئ الجسد
وللحبيبة وحدها
أن تنشر مفرداتها
على حبل روحى

ليقيم التقابل واضحاً بين الزوجة والمحبوبة ، تصبح فيه علاقته بالزوجة علاقة جسدية وتصبح فيه علاقته بالمحبوبة علاقة روحية محضة فى المقابل ولقد جر هذا التصور للزواج الديوان إلى مقاطع يبدو فيها الشاعر عدواً للزواج بصورة تجلب الابتسام فى بعض المواضع ولا تخدم الروح العامة للديوان وفى تقديرى أن فكرة التقابل بين صور المرأة المختلفة فى الديوان قد جرت إلى شئ من الإسراف فى هذا الجانب
وأرجو ألا يتخيل القارئ أنى أرى الديوان غارقاً فى الذاتية ، فسرعان ما يخرج الشاعر عن حدود ذاته ليرى فى ناجى العلى صورة أخرى من همومه ويرى فى بغداد صورة أخرى من واقعه ، ويستشرق أفقاً عربياً أوسع ، أعتقد أنه أفق حاضر داخل حدود النفس بأحلامها ويأسها وفوضاها وتأملاتها جميعها
وبفضل هذا التوازن بين الذاتية والغيرية ، بين الأنا والآخر ، بين الوطنى والقومى ، بين جلسة المقهى الثرثارة وحركة الشارع الفياضة بالقصائد ، بين المراهق والعجوز الكامنين فى نفس واحدة ، يستطيع الديوان أن يلمس أوتاراً دقيقة يعزف عليها برهافة


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بكم..
أشرف بتعليقاتكم..
محبتى