الأربعاء، 28 أبريل 2010

حوار مع الشّاعر التّونسيّ يوسف رزوقة...حاوره المبدع: صالح سويسي*











حوار مع الشّاعر التّونسيّ يوسف رزوقة



حاوره: صالح سويسي*
---------


يمثّل الشاعر التونسي يوسف رزوقة حالة فريدة في المشهد الشعري التونسي والعربي على حد السواء، أصدر عددا من الكتب الشعرية باللغة العربية، كما أصدر مجموعات باللغة الفرنسية، كتبت عنه دراسات كثيرة، واهتمّ عدد غير قليل من النقاد و الدارسين بشعره كحالة خاصة و مميّزة في الراهن الشعري العربي.
صدرت له خلال الأيّام القليلة الماضية، الأعمال الشعريّة الكاملة تحت عنوان "الهلال يتجه شرقا". كما صدرت له بالفرنسيّة مجموعة شعريّة في مقدّمة للنّاقدة الفرنسّية أود ريشو ديانو، تحت عنوان : " باكرا على الأرض : مدائح إلى هوراس ، أوبرا إفريقيا ".
عن هذين الإصدارين، عن أصله "القريشيّ" الّذي اكتشفه مؤخرا في "بني كلثوم" التّونسيّة، عن بداياته الأولى في الكتابة، عن لحظات الولادة، عن التّواصل مع الآخر، عن اختياره بطلا في رواية مكسيكيّة، عن "دستور الشعراء"، عن اليوغا الشّعريّة، عن دوره الوظيفيّ في حركة " شعراء العالم" بصفته أمينا عامّا لها في العالم العربيّ وعن مسائل أخرى، التقيناه وكان هذا الحوار:

* بدءا، ماذا عن محتوى هذه الأعمال الشّعريّة في جزئها الثّاني؟

- بعد صدور الجزء الأوّل من أعمالي الشعريّة سنة 2003 والّذي ضمّ من مجاميعي الشعريّة: إعلان حالة الطّوارئ، أزهار ثاني أوكسيد التّاريخ، بلاد ما بين اليدين، الذئب في العبارة ولدائن الرّوح تليها إيبيستيميّة الخروج ، تسنّى لي، هذه الأيام، عبر دار مسكيلياني للنشر والتوزيع بتونس، إصدار الجزء الثّاني وفيه جمعت دواويني الشعريّة الأخيرة: ملحمة الخاتم، تحليق فوق المتوسّط ، بعيدا عن رماد الأندلس، أزرق النّورس الضّحوك، هـايـتو، تمثال لجلالة المعنى، ما تطلبه الروح، تمكين الكائن في مكانه، رفة الجناح الخفيّ، رابسوديات شـــــاعر جــوّال، في رأب ما تصدّع بين الـرّوح وعمـــودها، 2 جلجامش1990، جحيمان في
القلب، أرض الصّفر، يـوغـانــا، الفراشة والدّيناميت..


* وماذا عن مجموعتك الشعريّة "باكرا على الأرض"؟

- صدرت هي الأخرى ، هذه الأيّام، عن دار إيماجين ذات الأبعاد/ باردو، تونس ، في 130 صفحة وتنطوي على مجموعتين شعريّتين، تحمل الأولى عنوان "هكذا تحدّث حكيم وايمار" ، غوته ، شاعر ألمانيا الأشهر وصاحب "الديوان الغربي والشرقيّ"، في حين جاءت الثانية تحت عنوان " الرقص مع الزرافة" .

وهج الجذور

* لنفتح شبابيك الذاكرة، من قريتك "زردة" تحديدا...

- في الواقع، يلذّ لي أن أتموقع جغرافيّا، كذات قلقة، بين الثّابت والمتحوّل، فالثّابت، حسب ما هو وارد في بطاقة التّعريف الوطنيّة، أنا من مواليد قصور السّاف، الكائنة بأقصى شرقي البلاد التونسية، تتوسط الساحل التونسي، على بعد 12 كلم من المهدية، عاصمة الفاطميين.
أمّا المتحوّل، فأنا ابن زردة، القرية الّتي هاجر إليها والدي، في عشرينات القرن الماضي، نتيجة قرار اتخذه إزاء إحدى عائلات المكان والّتي خذلته وهو ينوي مصاهرتها بقولها: لن نزوّج ابنتنا لمن ليس له بيت يشنق نفسه فيه لتكون وجهته من ثمّ زردة ( بضمّ الزّين وتسكين الرّاء)، بادية من بوادي الجهة، أصبحت مع الأيّام، بفضل النّموّ الدّيموغرافيّ والنّهضة العمرانيّة المتنامية قرية قائمة بمجلسها القرويّ، في معتمديّة سيدي علوان ( الّتي نشأت حول مقام وليّ صالح هو سيدي علوان لتسمّى باسمه وكان نزح إليها من الساقية الحمراء مع أتباعه أيام الغزو الإسباني، في أواخر القرن الخامس عشر، لتعزيز صفوف المرابطين والوقوف في وجه الغزاة).
لكنّ ثالثة الأثافي، كما يقال قديما، فإنّ منحدر عائلتي الأوّل هو بنو كلثوم، قرية آمنة، كائنة على ربوة، بمساكن
( المدينة الواقعة بقلب الساحل التونسي والتابعة إداريا لولاية سوسة ، هي تنتمي طوبوغرافيا إلى الساحل المنخفض ، يسودها مناخ متوسطي وتكسو منطقتها غابة زياتين شاسعة و أراض زراعية و حقول و بساتين كثيرة).
وقد زرت بني كلثوم للمرّة الأولى، قبل أشهر قليلة، رفقة شقيقي حسن القادم من هولندا لزيارتنا، لنكتشف المكان ونتفيّأ الظّلّ العائليّ العتيق للشّجرة وكانت مناسبة مؤثّرة جدّا، فاجأت الأهالي، متساكني المنطقة ومسؤوليها الّذين سارعوا باستقبالنا فأحسنوا وأوسعوا لنا في مجالسهم ليكون لنا تواشج مع وهج الجذور، مع أجدادنا الأوّلين ولنكتشف بالمناسبة، أنا وشقيقي، حسب رواية أهل القرية واللّه أعلم، أنّ أصلنا قريشيّ، على خلفيّة أن أختين هما كلثوم وربيعة، من آل قريش، قد استقرّتا منذ آلاف السّنين، متجاورتين بالمكان فكان منهما نسل قامت بفضله، من ثمّة بنو كلثوم وغير بعيد عنها، قامت بنو ربيعة.

* الولادة ولادات، أين، متى و كيف كانت ولادتك الشعرية الأولى ؟ وماذا عن سائر ولاداتك الأخرى؟

- كانت في زردة تحديدا، ذات خريف من عام 1967، عندما اكتشفت صدفة، وأنا أبلغ من العمر عشرا، أنّ شقيقا لي، يكبرني بسنوات قليلة، يكتب شعرا في حبيبته هي زميلته بالمعهد الثّانويّ، فاجأني ذلك فعلا، لأنّني لم أكن أتوقّع أنّ الشّعر في متناول البشر، مثل أخي أو غيره، بل كنت أراه شيئا استثنائيّا تأتيه فئة أخرى، لم يكن لي وقتها من سعة الخيال ما يكفي لأدرك أنّها تنتمي في الحقيقة، إلى الواقع، واقعنا البشريّ هذا.
كانت تلك المفاجأة بمثابة القادح الأوّل لي، لأكتب ما كان يعتمل في العمق منّي، من مشاعر طفل شقيّ، أرهقته المراهقة والغربة الكاسرة لتكون محاولتي الأولى " من أكون؟"، قصيدة كتبتها بلغة فولتير وشذبتها أستاذتي الفرنسيّة روز ماري جوري لتنشر في "الطموح"، مجلّة المعهد الثّانوي بقصور الساف وقد تلت هذه المحاولة الشّعريّة محاولات شتّى بالعربيّة، لعلّ أهمّها "شيء اسمه الحرمان"، قصّة قصيرة نشرتها حينها مجلّة الإذاعة والتّلفزة التّونسيّة، برسم للفنّان المنصف زرياط ، جعلت أستاذ اللّغة العربيّة لا يصدّق أنّني كاتبها ليأمرني بنظراته المتزأبقة من تحت نظّارتيه وبصوته الغليظ بأن أصمت، ليجهض، وأنا أستدرّ رضاه بتلعثم التّلميذ الخجول ، رغبتي الاستعراضيّة الكامنة في أن أبدو أمامه وأمام نظرائي التّلاميذ ، شيئا ذا أهمّية . كانت تلك أوّل صدمة، بالنّسبة إليّ، من مثلي الأعلى، ومع ذلك، لم يزدني إحباطه لي، على ذاك النّحو الشوفينيّ، القامع إلاّ نزفا وهروبا إلى الأمام وكان أوّل ما فعلته أن غيّرت المكان، باتّجاه سوسة، جوهرة الساحل التّونسيّ، حيث الأفق الرّحب الممتدّ من البحر إلى الحبر، إلى مئات القصائد الّتي ولدت هناك، عند كورنيش بوجعفر، رفقة من عرفت من رفاق الطّريق : الحبيب جغام، محمّد مرجان، رضا بورخيص، محسن المهذّبي، المختار الكوني، عائشة ملكة الجمال الّتي رحلت بعد سنين وآخرين...
كنّا نلتقي في مقهى "الاتّحاد" أو غيره ونكتب أشياء سرعان ما نرسلها إلى المجلاّت أو الصحف التّونسية والعربيّة ليصار لاحقا إلى نشرها، على نحو يشبع غرورنا.
كنّا نعيش كلّ يوم ولادات بالجملة: شعرّية، سرديّة، نقديّة وترجمات وكان البحر يضجّ أمامنا حلما وحبّا وحرّية وحياة وسائحات جميلات، إلى حدود اجتياز الباكالوريا والارتحال إلى تونس العاصمة وهناك، كانت ولادة
" أمتاز عليك بأحزاني"، مجموعتي الشّعريّة الأولي التّي فازت لدى وزارة الثّقافة التّونسيّة بالجائزة الأولي إلى جانب الشاعر رياض المرزوقي، أستاذي في مادّ ة الأدب العربيّ الّذي فاز بالجائزة الثّانية عن كتابه " الرحلة في الأبيات"، فلم يفته ، وكنت بصدد اجتياز الامتحان الشّفاهيّ لديه، أن يهنّئني بالجائزة، على نحو لم أكن أتوقّعه، جعلني أنسى ما كان من أستاذي القديم، ذاك الّذي صرخ في وجهي : اسكت يا كلب! وأنا أطلعه ، بغبطة طفل خجول، على "شيء اسمه الحرمان".

* الذئب في العبارة، يوغانا، أسطرلاب يوسف المسافر، أزهار ثاني أوكسيد التاريخ ، بلاد ما بين اليدين والفراشة و الديناميت، هي عناوين بعض مجموعاتك الشّعريّة، ألا ترى فيها إحالات مربكة أحيانا و"خبيثة " أحيانا أخرى ؟

- بل أريد منها أن تكون كذلك : حمّالة أوجه ودلالات حافّة وإذا لم تكن كذلك، فلا بورك فيها مجرّد عناوين عاديّة في واجهة بلّوريّة، باهتة.

* أحسب أنّك تجاوزت أجيالا كاملة في مغرب العرب و مشرقهم، و أتصوّر أن هذا قد خلق أعداء كثيرين من حولك، رغم أنك تنفي وجود أيّة عداوة، ما الّذي يحصّنك ضدّ مؤامرات الوقت الرديء، إن وجدت ؟ هل تكفي الكتابة وحدها؟

- أحسّ أحيانا، عبر قرون استشعار خاصّة، أنّ لي أعداء كثيرين، ليس في العالم العربيّ فحسب بل حتّى في أوروبا ولشدّ ما يزعجني ذلك، ليس لأنّ إحساسا عدائيّا كهذا يستهدف شخصي، فهذا أمر هيّن عندي وهو لو تدري حافز لي على مزيد التّحدّي بل ما يزعجني في كلّ هذا، أن يكون "العدوّ" واحدا منّا، من النّخبة المثقّفة، أي من نفس العائلة الحاكمة باسم الكلمة.
أتساءل أحيانا: أيعقل أن يحقد شاعر مثلا، وهو النّاطق باسم الجمال والسّموّ ونحوهما، على نظيره الّذي قد يكون حقّق نجاحا ما؟ ألا يخشى في ذلك لومة مرآته الفاضحة فيبدو أمامها ضئيلا وهو المثقّف الّذي من المفروض أن يتدرّب كثيرا، أخذا وعطاء، كي يكون كبيرا أمام نفسه وإزاء الآخرين؟
شاعرة فرنسيّة لاحقتني حتّى أمريكا اللاّتينيّة كي تفضح تقنيتي في الكتابة الشّعريّة لدى قرّاء بورخس و ماركيز، على خلفيّة أنّ تقنيتي تلك في الكتابة بالإسبانيّة والّتي لاقت صدى ونجاحا أحسد عليهما، هي نفسها الّتي أتوخّاها في كتابتي بالفرنسيّة، منذ سنوات، ظنّا منها أنّها بذلك ستشوّه صورتي لدى الآخر فأعرف حجمي وأجلس دونه.
مترجم إيطاليّ في السّبعين خريفا، ناصبني العداء وتوعّدني بمقال نقديّ، لاذع، يفضح فيه ما يراه منّي خروجا عن المألوف وهتكا لشرف الجملة الشّعريّة ولسائل أن يسأل : لماذا كلّ هذا العداء؟ والجواب: لأنّ شاعرة من الأرجنتين، امتدحت ما أكتبه في لغتها وعبّرت له عن عميق إحساسها كقارئة نحوي فجنّ جنونه وهو الّذي كان يمنّي النّفس باحتلالها، خصوصا بعد أن ترجم لها إلى الإيطاليّة، كتابا.
أمّا عربيّا، فقد تعاطيت مع ردود الأفعال المنفعلة، بشيء من الخوف غير المبرّر، صمتا وصبرا. نعم، أخاف أن أخسر أصدقاء لي، مثقّفين، ينتمون إلى عائلتي الموسّعة. لذلك لا أملك إزاء إساءاتهم، إن وجدت، إلاّ أن ألوذ بما هو صمت، في انتظار أن يعودوا، ذات يوم أو ذات وعي، إلى أنفسهم وإليّ.

* يذكّرني موقفك هذا بما قاله فيك مؤخّرا الشّاعر الفلسطينيّ أحمد دحبور في مقال له بجريدة " الحياة الجديدة" حول كتابك "برنامج الوردة"، حيث قال : " هو محتفظ بخصوصياته في إيقاع باطني كأنه يضنّ بردود أفعاله على العالم ليحولها إلى قصائد أو أعمال أدبية، وإلى ذلك ، ما عرفت شخصا بصدق طويّة يوسف رزوقة، فهو لا ينطق إلا بشهادات طيّبة في حق زملائه وأصدقائه. ويصمت عندما يكون رأيه سلبيّا. "

في رأي كهذا لصديق شاعر من طينة أحمد دحبور، بعض إنصاف لي. نعم ، ذاك في رأيي أقوى الإيمان بنبل الرّسالة المشفّرة بين الأصدقاء المحتملين، عبر استدراجهم بذئبيّة خاصّة، إلى بيتك، بيت القصيد، عوض الخوض في معاداتهم، إن بشكل أو بآخر، بجريرة أنّهم ناصبوك العداء في لحظة ضعف.

أكثر من جناح

* بصفتك الرّاهنة سفيرا لحركة شعراء العالم فأمينا عامّا لها، ممثّلا للعالم العربيّ، ماذا عن دورك الوظيقيّ فيها؟

- "شعراء العالم" حركة عالميّة، مقرّها الشّيلي، تضمّ أكثر من 2500 شاعر من القارّات الخمس يلتقون حول أهداف وردت في " المانيفستو العالميّ لشعراء العالم" .
أمّا دوري فيها، فهو محاولة منّي لخدمة الشّعر العربيّ وضمان إشعاعه، على نطاق البلدان النّاطقة بالإسبانيّة (أمريكا اللاّتينيّة تحديدا) حيث تمّ إدراج زهاء 800 شاعر من 23 دولة عربيّة ضمن بوّابة الحركة بعد أن تمّ اعتماد اللّغة العربّية ، في كلّ أبوابها ، إلى جانب لغات القارات الخمس.

* يرى البعض أن حركة " شعراء العالم " فتّحت بوّابتها، وإلى جانب الشّعراء ذوي الجدارة، لأسماء أخرى لا تمت إلى الشّعر بصلة ولولا علاقتها بك، ما كانت لتجد طريقها السّالكة إلى هناك / هنا ؟ ما هو رأيك حول هذه المسألة ؟

- لهذه المسألة زاوية نظر أخرى، غير الّتي يتمّ بموجبها تقييم الحضور النّوعيّ من عدمه، عبر بوّابة افتراضية أريد لها منذ البداية أن تكون حديقة الشعراء الجامعة لكلّ الشّعراء، بقطع النّظر عن أدائهم الشّعريّ الّذي هو من مهامّ النّقّاد، إن وجدوا.
في " شعراء العالم"، نحن نعمل بدأب على لمّ شمل العائلة الشّعريّة، مترامية الأطراف، في عموم أنحاء العالم، على افتراض أنّ الشّعر في جوهره ليس مجرّد قصيدة نكتبها وفق معايير فنّية معينة ونمضي بل هو أيضا أسلوب حياة لدى البعض من يتامى الخارطة، ممّن رأوا في الكلمة ملاذا.

* أنت تكتب بأكثر من لغة، هل هي رغبة في الوصول إلى الآخر بلغته دون وساطة الترجمات و آثامها أحيانا ؟

- نعم، ارتأيت الهروب، إلى حين، إلى هناك، إلى إسبانيا وعبرها إلى بلدان أمريكا اللاّتينيّة ليكون لي فيها موطئ قدم وقلم ، فكان لي ما أردت لأتورّط بمحض رغبتي الكاسرة في ما أراه " المرحلة القائظة" بعد أن عشت المرحلة الباردة ( تجربة أوروبّا الشرقّية : روسيا وما جاورها) والمرحلة الفاترة (تجربة أوروبّا الغربيّة: فرنسا وما جاورها).
هي ليست مجرّد رغبة في الوصول إلى الآخر بل هي حقي المشروع في التّحليق مع الآخر، بأكثر من جناح لي، حتّى لا أظلّ أسيره أو بمنأى عنه وحتّى لا يشوّهني المترجم، مهما ادعى الوفاء، فيخون جوهر ما أريد أن أقول.

* ألا تخشى ضياع صوتك ؟ بصمتك؟ ألا تخشى شتاتا إبداعيا في زحمة اللغات التي تكتبك / تكتبها ؟

- بخصوص احتمال تشتّت الحالة الشّعريّة في أكثر من وسيط لغويّ فإنّ مجرّد الوعي بهذا ، يجعلني أحذر المطبّات المحتملة لأيّ انحراف غير محمود العواقب عن الطّريق الساّلكة، في مستوى مصداقيّة ما أنا بصدده : كتابة القصيدة الّتي أريد، باللّغة الّتي أريد وبالمواصفات والمعالجات الفّنية الّتي تحقّق لقصيدتي الإضافة بانزياحها وفرادة أسلوبها.
إنّ قانون اللّعبة لديّ ، مع أيّة لغة وفي أيّة قصيدة، أن ألعب ، على أن لا يجرفني هذا اللّعب الغاداميريّ الواعي إلى رداءة الأداء لكنّ عزاءنا أنّ اللّغة وحدها هي الكفيلة، باعتبارها بيت الكينونة على حدّ تعبير هيجل، بتحقيق هذا الرّهان وإعادة تشفير العالم ، بكلّ تواضع عسير، عبر قصيدة قادمة تقطع مع الأطروحات السّائدة وتقترح البدائل بجرأة من لا يروم التغرير بقارئه المتخيّل والمستهدف.

* ما حكاية الرّوائيّة المكسيكيّة الّتي جعلت منك شخصيّة أساسيّة في روايتها " إيزابيل، سيّدة البحر"؟

- كانت تلك مفاجأة كبرى لم أتوقّعها فعلا، لم أكن أتوقّع ولو افتراضا، أن تبادر روائية من المكسيك بكتابة رواية بل ثلاثية روائية عن شاعر مثلي، من المغرب العربي.( إلى جانب "إيزابيل، سيدة البحر"، كتبت روايتين أخريين في نفس السياق هما : "سيسيليا في اثنين" و"الأفق الأزرق")
لعلّ ما حفّزها على ذلك، ذلك الزّخم المتوافر لديها من نصوص ومعطيات حافّة بي وبمشروعي الشعريّ الّذي أدأب منذ سنوات على ترسيخ أسسه، في لغة لوركا، في عموم أنحاء أمريكا اللاّتينيّة ، بدليل تضمينها المكثّف وبطريقة سرديّة ذكيّة لجملة من قصائدي جعلتني ألهج بها في السّياقات الحواريّة وغير الحواريّة لروايتها.
أمّا أحداث الرّواية والّتي حصلت على نسخة منها فتدور في الفضاء المغاربي ، بين المغرب والجزائر وتونس بعد أن قدمت إليه ( أي إيزابيل ومن معها) من هناك، من وراء البحار.
ملخّص الرواية، أنّ إيزابيل أو سيّدة البحر والتّي أريد لها أن تؤيقن حضورها كرمز للحياة وللزّمن، تقرّر الرّحيل ، لكسر رتابة الإحساس بالأشياء و بالواقع المهيمن، مع قدرها الجديد، إلى نقطة ما، من العالم
( الجناح المغاربي تحديدا) ، قد تكون رأتها مضيئة إلى حدّ ما وقد تمّ تسويغ حضوري في هذه الرّواية كلمة وروحا على امتداد اثنين وعشرين فصلا تشابكت عبرها الأحداث لتفرز في النّهاية رواية الإنسان في هذه القرية الكونيّة السّاخنة.

سيرة الضمير المتكلّم

* و الرواية التي تحيك صفحاتها منذ زمن و هي التي ربما تكون سيرة الكائن الكوني يوسف رزوقة، ماذا عنها؟ و هل أتممت صفحاتها الألف؟

- لا، ليس بعد، هي تنضج بالتّدريج على نار هادئة، لم العجلة؟
بعد رواية " الأرخبيل" التي صدرت في ثمانينات القرن الماضي، اختمرت لديّ فكرة ارتكاب رواية كبيرة وجريئة بحجم الفضيحة. هذه الرواية أستهلّها بشاهدة لخورخي لويس بورخس يقول فيها:
الكاتب ليس مطالبا بالبحث عن موضوعه بل على الموضوع أن يبحث عن كاتبه .
و" ماتريوشكا "، العنوان الأوّلي لروايتي هذه: هي كما أردتها رواية الذّات العربيّة في انتصارها وفي انكسارها.
أمّا انتصارها فلا يهمّ إلاّ المؤرّخ فهو وحده كفيل بتدوينه بأحرف من نور.
وأمّا انكسارها فهو بيت القصيد: جرحنا الممتدّ من المحيط إلى الخليج. ولعلّنا ~ ونحن نصبو إلى فتح ما يبدو بعيدا ~ منذورون من حيث ندري لاستدراج البئر | إرثنا الزّاخر بالثّغرات وبالعثرات، علّنا واجدون فيه مفتاحا لخيبتنا وقد طالت...
هي سيرة الضّمير المتكلّم والمبنيّ للمجهول في آن.
سيرة شاعر يرفض أن يظلّ مجرّد طيف يثغو في جمهوريّة دوللّي وضواحيها المعولمة ويرفض أن يظلّ في منفاه: في حلّ من تاريخه القديم، في جدل بيزنطينيّ مع أجداد بلا أخطاء أو في ورطة مع نفسه وهي الوجه والقناع.
لذلك كلّه، تتداخل أكثر من رواية في هذه الرّواية ، في محاولة لإرساء رواية " الأمّ وبناتها " | في إشارة إلى " الماتريوشكا" أو الدّمى الرّوسيّة المتراكبة حسب تدرّج أحجامها |.
رواية تخفي رواية وما خفي، هو أيضا رواية.
وهذه الرّواية ترفض التّعالي على أجناسيّتها وإن نحت، وهي توهم بذلك، منحى التجريب في بعض مفاصلها.
وهي في الوقت الّذي تلغي فيه مؤلّفها، تثبّته: أنا متعالية في لغتها، متساوية في جوهرها مع قارئها، متهاوية، في غير ضعف، نحو أرض الحقيقة.
خلف هذا العمل السّرديّ، يقرفص أكثر من وجه : الرّوائيّ، الشّاعر، النّاقد، الباحث، السّياسيّ، لاعب الكرة، الصّحافيّ، الفنّان التشكيليّ، رجل المسرح، الموسيقار، راقص الباليه، المخرج الّسينمائيّ ، مهندس الدّيكور والسّينوغرافيا ونحوهما...
كلّهم ذائب في محلول الصّودا السّرديّة بتسويغ من مؤلّف شاعر بشائكيّة الشّيء وضدّه وهو القائم بالشّيء وضدّه، شؤونه شتّى وهو قليل.
بين "السّقيفة"،"الصّحن"، و"الصّندوق الأسود" تراشح تليه "هوامش" و"تغذية مرتدّة" هي "انسياب حول كتلة" النّصوص المتراكبة.
أمّا الجامع بينها جميعا ، وهي منشورة تحت شمس لا تغيب ، فهو حبل الغسيل.

* " دستور الشعراء " الّذي صغته مع نخبة من الشعراء العرب في عمّان / 2003 ، منذ صدوره إلى اليوم ، لم نسمع أي صدى له أو أي إنجاز تلاه ، هل كان مثل القرارات الصادرة عن جامعة الدول العربية مثلا ؟

- إزاء الخطر الداهم في شتى تمظهراته المعلنة و غير المعلنة، يهدد الكائن في جوهر وجوده : مسخا لهويته
و حطا من قيمته (إن وجدت ).
و إزاء اللغط الجائر، يستهدف الشاعر و يشكك في نبل رسالته : قولا بلا جدوى الكتابة في زمن عاصف بالروح و بالكلمات كهذا …
كان لا بد من " بيان " يقول عصره و يحقق القيمة المضافة و المعنى لشاعر الهنا و الآن …
و ما هذا " البيان " الذي أمضى على ديباجته كل من : محمد علي شمس الدين (لبنان) عز الدين المناصرة (فلسطين) رشيد يحياوي (المغرب) ضمير المتكلم وشمس الدين العوني (تونس) إلا مشغل في صميم حرائق المرحلة و متغيراتها، سيظل مفتوحا على المستقبل، يهم الجميع : نقادا و شعراء، من أجل مماحكته ومقاربته للخروج من ثمة بـ : " دستور الشعراء : نهجا ودورا و أداة " …
فمع مطلع الألفية الثالثة و في هذا الفضاء الاتصالي، المعولم، يقترح الشاعر، الآن وهنا، مشروع دستور جديد : نهجا، دورا و أداة … وهو يرنو من وراء ذلك- وأكثر من أي عصر- إلى توطين كيانه الإبداعي، المخصوص : قولا مختلفا و حضورا قويا على الخارطة، في محاولة انقلابية، واعية، بهدف التناغم- بإبداع و لا شرط غيره - مع راهن الأسئلة الكبرى و متغيرات المرحلة.
أمّا عن تجسّد هذا البيان من عدمه على أرض الواقع فذاك شيء غير قابل للتّحقّق بين عشيّة وضحاها، وهو ليس منذور لأيّة مهمّة عاجلة بل هو إرهاصة وعي تجسّدت عبر الكلمات لتعتمل في صيرورتها، في وجدان الضمير الجمعيّ، عساها تسهم يوما، بعد سنوات أو حتى بعد قرون، في تشكيل رؤية بديل وذائقة جديدة تقطعان مع إرث الهزيمة والنّكبات.

* تقول في أحد الحوارات معك " أنا غاندي الألفيّة الثّالثة، لكن عبر الكلمات.." هل من بعض ضوء ؟

- أعني اليوغا الشعرية أو يوغانا وهي سؤال الروح – وهي تمارس رياضتها عبر الكلمات العازلة للعزلة، للرياح السموم ومشتقاتها، لكل دخيل غير مرغوب فيه و لكل عنف مفروض من الداخل و / أو من الخارج.
*****
*الحوار منشور في العدد الأخير من مجلّة "عبقر" السعودية التي يرأس تحريرها الشاعر أحمد قرّان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بكم..
أشرف بتعليقاتكم..
محبتى