السبت، 10 أبريل 2010

إِضَاءَاتٌ فَنِّيَّةٌ عَلَى لَوْحَةِ: "رَجُلٌ أَشْقَرُ، وَسُنْبُلَةٌ سَمْرَاءُ" لـلدّكتور: يَاسِر محمَّد مُطره جي بقلم المبدعة والناقدة:نورة الودغي



إِضَاءَاتٌ فَنِّيَّةٌ عَلَى لَوْحَةِ:

"رَجُلٌ أَشْقَرُ، وَسُنْبُلَةٌ سَمْرَاءُ" لـلدّكتور: يَاسِر محمَّد مُطره جي

بقلم المبدعة والناقدة:نورة الودغيري





سَقَطَتْ في يدِ رجلٍ أنيقٍ وقورٍ لطيفٍ غريبٍ عن ضيعتِها سنبلةُ قمحٍ في عمرِ الزّهورِ
خجولةٌ، صغيرةٌ، سمراءُ، ناعمةٌ، ترتعشُ وترتجفُ بقلبٍ وجلٍ ودمعِ عينٍ ينهمر.
تلاعبَتْ بها ريحٌ هوجاءُ موحِلَةٌ، في جوٍّ عاصفٍ يومُهُ، قارسٍ بردُهُ، غزيرةٍ أمطارُهُ، تشاهدُ حولها الأهوالَ وتغيّرَ الأحوالِ فتندهشُ وتنكمشُ وتنصهر.
هل من مُغيثٍ لي فأنتصر؟
هل من معينٍ قبلَ أن أندثر؟
هل من هادٍ يعيدني إلى بيتي حولَ السّنابلِ بين الرّياضِ والبساتين والحقولِ فأزدهر؟
أرجوكم لا أريدُ أن أنكسر!!
فأتاها الجوابُ من بعيدٍ مُرَدِّداً كلماتٍ أربعاً صدى نهايةِ جملٍ أربعٍ في وجدانِها الملهوف وقلبها المشغوف المُعتصر:
أنتصر...
أندثر...
أزدهر...
أنكسر...
لم تعد لي جذور لأنتصر!!
لم يعد لي مكانٌ لأزدهر!!
أفسوفَ أندثر؟
أم تراني سوف أنكسر؟
ثُمَّ غالبني النّعاسُ، ففتحْتُ له قلبي؛ لتغفوَ فيه عيني
لعلّي أجدُ ملاذاً وسلوى وخلاصاً من واقعٍ مأساويٍّ، حارَ له العقلاءُ، وتخبَّطَ به الحكماء، في حُلمي
فلم أرَ في نومي صدًى أنفعَ من صدى واقعي، واحسرتي، وا بلوتي، وا كربتي!!!
فتحْتُ عيني فرأيتني في كفِّ ذاكَ الرّجلِ الجميلِ الأشقرِ ذي العيونِ الزُّرْقِ
يُحَدِّقُ بي، والتعبُ أضناني، والاغترابُ أعياني، وشعوري بفقدِ الانتماءِ قد براني.
تبسَّمَ في وجهي تَبَسُّمَ الأفرقاء، ورفعَ يَدَهُ صوبَ فمِهِ، ونظرَ إلى البعيد نظرةَ المنتشي المزهوّ المنتصر، ونفخَ عليَّ نفخةً لطيفةً سوداء لأحتضر
والتفتَ عنّي داخلاً ضيعتي، ماشياً على أرضِها مَرحاً، وأنا أطيرُ على غيرِ هدىً منّي في الهواء في الضبابِ في الفضاءِ
مودِّعةً سنابلي وجذوري وينابيعي وحقولي؛ لأسقطَ في مستنقعِ الضَّياعِ خارجَ حدودِ زمني
فأندثر
وأنكسر
ولكنّي رغمَ كلِّ هذا وذاكَ
لن أنتحر
لن أنتحر
لن أنتحر

يَاسِر محمَّد مُطره جي


إضَاءَاتٌ فَنِّيَّةٌ عَلَى لَوْحَةِ: "رَجُلٌ أَشْقَرُ، وَسُنْبُلَةٌ سَمْرَاءُ" لـلدّكتور: يَاسِر محمَّد مُطره جي بقلم : الكاتبة المغربية نورة الودغيري

بالقدر الذي نعاني منه -نحنُ العربَ- من ويلات وقوع فلسطين في شباك المستعمر، وإحكام قبضته عليها، نفخر بالآثار التي خلفها هذا الصراع غير المتكافئ على حركة الأدب العربي الذي واكب منذ البداية إلى الآن حركات التمرّد ضد طغيان الكيان الإسرائيلي الغاشم؛ حيثُ اهتمَّ الأدباء بمختلف توجهاتهم ومدارسهم بالدفاع عن القضية الفلسطينية.
ومن المبدعين الذين استلهموا عناصر عملهم الإبداعي من قضية العرب الأولى نجد الأستاذ الأديب والناقد المتميّز الأستاذ ياسر مطره جي يُسهم بدوره من خلال خاطرته: "رجلٌ أشقرُ، وسنبلةٌ سمراءُ" في تصوير حالة الظلم الذي يعيشه قطرنا العربيُّ المسلوب.

عنوان الخاطرة طرق فكري وحواسي منذ الوهلة الأولى، و استوقفتني سلطة هذا العنوان وإمكانية استثمار سلطته هذه، لصالح هذه الدراسة التي أسعى من خلالها إلى تحصيل دلالة النص بصفة كلية.

"رجل أشقر" يحيل دلالياً إلى انتمائه إلى جنس وأصل غير عربيين، وهو ذو دلالة حقيقية ملموسة وحاضرة على أرض الواقع، أمّا "سنبلة سمراء"، فتنطوي على دلالة رمزية مجازية مبهمة، تستدعي فكّ رموزها لينجلي غموضها، وهكذا وجدت العنوان مثيراً للدهشة، تتناسل منه أسئلة ويطرح فرضيات، فتحت شهيّة القراءة لديّ، ولعلّ هده الخاصية الفنية الأولى لهذا العنوان المثير المحفز، ستؤدّي بي -لا محالة- لبراح سرد مشوّق ذي شخصيات متباينة و متنافرة
تحمّسْتُ وتأمّلْتُ، ثُمَّ غصْتُ فسبحْتُ، فوجدْتُ نفسي في خضمِّ خاطرة رمزية ذات صبغة قومية، تعالج بتأنق و إبداع قضية طالما أرقت مضاجعنا، واعتصرت دواخلنا يقول الكاتب:

سَقَطَتْ في يدِ رجلٍ أنيقٍ وقورٍ لطيفٍ غريبٍ عن ضيعتِها سنبلةُ قمحٍ في عمرِ الزّهور
خجولةٌ، صغيرةٌ، سمراءُ، ناعمةٌ، ترتعشُ وترتجفُ بقلبٍ وجلٍ ودمعِ عينٍ ينهمر.
تلاعبَتْ بها ريحٌ هوجاءُ موحِلَةٌ، في جوٍّ عاصفٍ يومُهُ، قارسٍ بردُهُ، غزيرةٍ أمطارُهُ، تشاهدُ حولها الأهوالَ وتغيّرَ الأحوالِ فتندهشُ وتنكمشُ وتنصهر.
.
تجلى لي منذ الوهلة الأولى ّأن الكاتب يحيلنا بفنية عالية على الواقع البائس للشعب الفلسطيني، الذي يضمحلّ أمام هجمة التهجين الصهيونية، وما السنبلة ذات الشحنة العربية السمراء إلا رمز لفلسطين السليبة، وقد تعمد الكاتب استهلال خاطرته بلفظة مدوية ذات وقع في النفس ألا وهي لفظة سقطت، التي لم ترد عند أديبنا المبدع بصورة اعتباطية بل تعمد استهلال خاطرته بها لفظةً رنانةً ذات وقع مؤلم في نفس المبدع والمتلقي على السواء، نعم سقطت سنبلة مليئة قمحاً، في يد عدو غاشم، ذي أناقة مزيّفة، ووقار خادع، ورجولة هشّة، أشقر غريب عن أرضنا، وقيمنا، وثقافتنا، وديننا، غريب في أطواره، وغريبة أيضاً مبرراته الواهية للانقضاض عن أرضنا المقدسة.
سقطت فلسطين، تلك السنبلة الممتلئة قمحاً، وما القمح هنا إلا رمز لحضارة فلسطين المتجذّرة، الضاربة في عمق التاريخ، رمز لما تحمله من قيم وعزّة وإباء ، اغتصبها العدوُّ صغيرةً في مساحتها، كبيرةً في عطائها الغزير بشبابها، المثمر، بخيراتها، سقطت، فتلاعبت بها رياح العدوّ الحاقد، فأوقعتها في مستنقع غلِّهِ، وحقدِهِ الموحل، عصفت بها هجماته النكراء
فجعلتها تنكمش مرتعبة من غزارة القنابل، مرتعدة من دوي المدافع، وها هي ذي تستنجد:

هل من مُغيثٍ لي فأنتصر؟
هل من معينٍ قبلَ أن أندثر؟
هل من هادٍ يعيدني إلى بيتي حولَ السّنابلِ بين الرّياضِ والبساتين والحقولِ فأزدهر؟
أرجوكم لا أريدُ أن أنكسر!!
فأتاها الجوابُ من بعيدٍ مُرَدِّداً كلماتٍ أربعاً صدى نهايةِ جملٍ أربعٍ في وجدانِها الملهوف وقلبها المشغوف المُعتصر:
أنتصر...
أندثر...
أزدهر...
أنكسر...
لم تعد لي جذور لأنتصر!!
لم يعد لي مكانٌ لأزدهر!!
أفسوفَ أندثر؟
أم تراني سوف أنكسر؟

هاهي تستغيث متوسلة الكبار، علهم ينتشلونها من ضياعها وخوفها، تطلب الانعتاق من براثن تلك العواصف العاتية المزمجرة المعربدة، عواصف القهر والظلم والاستعباد والتقتيل
لكن جبن الكبار، وخذلانهم، وتفكك كلمتهم، وشتات رأيهم، جعلهم يتنكرون لها، يدبرون ولا يقبلون، يتجاهلون ولا يجابهون، وها هي تواجه مصيرها، وحيدة بائسةً، مهددة بالاندثار، والانكسار، والذبول، منهكة قواها مشلولة أطرافها، مكدودة يغالبها النعاس:


ثُمَّ غالبني النّعاسُ، ففتحْتُ له قلبي؛ لتغفوَ فيه عيني

لعلّي أجدُ ملاذاً وسلوى وخلاصاً من واقعٍ مأساويٍّ، حارَ له العقلاءُ، وتخبَّطَ به الحكماء، في حُلمي
فلم أرَ في نومي صدًى أنفعَ من صدى واقعي، واحسرتي، وا بلوتي، وا كربتي!!!
فتحْتُ عيني فرأيتني في كفِّ ذاكَ الرّجلِ الجميلِ الأشقرِ ذي العيونِ الزُّرْقِ
يُحَدِّقُ بي، والتعبُ أضناني، والاغترابُ أعياني، وشعوري بفقدِ الانتماءِ قد براني.
تبسَّمَ في وجهي تَبَسُّمَ الأفرقاء، ورفعَ يَدَهُ صوبَ فمِهِ، ونظرَ إلى البعيد نظرةَ المنتشي المزهوّ المنتصر، ونفخَ عليَّ نفخةً لطيفةً سوداء لأحتضر
والتفتَ عنّي داخلاً ضيعتي، ماشياً على أرضِها مَرحاً، وأنا أطيرُ على غيرِ هدىً منّي في الهواء في الضبابِ في الفضاءِ
مودِّعةً سنابلي وجذوري وينابيعي وحقولي؛ لأسقطَ في مستنقعِ الضَّياعِ خارجَ حدودِ زمني
فأندثر
وأنكسر
ولكنّي رغمَ كلِّ هذا وذاكَ
لن أنتحر
لن أنتحر
لن أنتحر

نامت فلسطين في كهف الدجى، تكابد تعسف المحتلين ،وخذلان الأقربين، و غدر الأنذال المارقين، فاسحة المجال لمفاوضات عبثية، خرقاء، جوفاء، لا تسمن ولا تغني من جوع، أوهمت نفسها بغد أفضل، قد يخلصها من واقع، حنظل مذاقه، واقع تخبط فيه حكام، وفشل فيه حكماء، وتقهقر أمامه زعماء... ذلك الغد الذي لن تشرق شمسه ساطعة، و ينبلج فجره مشعا ،إلا عن طريق المقاومة المستميتة و الكفاح البطولي الصامد،لكن غفوتها لم تكن إلا أضغات أحلام لم تكن إلا تكريساً لصدى حسرتها، وعمق بلواها.
وها هي تستفيق مجدّداً، بين قبضتي ذلك الوحش الكاسر، المتربص بها، الحاقد عليها، المزهوّ ببطشه، المنتشي بانتصاره، نفخ فيها، مزق خيوطها، بعثر حبوبها، أبعدها عن جذورها وألقى بها في مستنقع الضياع، خارج حدود زمنها، لكنها رغم قهرها وضياعها، فإنّها مصرة على الصمود، مصرة على التحدي، مصرة على أنّها لن تنتحر لن تنتحر لن تنتحر...................

حينما تأملت الجانب الفني لخاطرة أستاذنا المبدع ياسرمطره جي، وجدته قد نثر خاطرته الرائعة، بفنية عالية، أسهمت في تهذيب أذواقنا، بعذوبتها، وفنيتها، وتميزها الأدبي، فقد كتبها صاحبها بتأنق وإبداع، وأرسل معانيها على جمل خفيفة قصيرة، تتناسب و فن السجع، بما يضفيه على النص من موسيقا، وشاعرية، وقد برهن من خلال توظيفه له بهذا الرقي، على مدى خلود فن السجع وبقائه، بل و مكننا من تذوق نكهته التعبيرية، والاستمتاع بإيقاعه.
إنّ الأثر الأدبي الذي بين أيدينا، يعدُّ بحقٍّ نموذجاً راقياً للنثر الفني، فقد تميز بحسن الكلام، ورفعة القدر، وفضل الإيجاز، وحسن الرمز، فاحتل في قلب المتلقي أعظم موقع.
الخاطرة هاته مرآة صاحبها، أدلت لنا بعمق أدبه، وعبرت لنا عن رفعة ذوقه، وسموّ تفوقه في انتقاء اللفظ الملائم لقالب الفكرة المراد تبليغها... قليلة هي حروفه، عميقة هي معانيه التي امتازت بالتتابع النفسي والعضوي، وأيضاً بملاءمتها لروح العصر الذي نعيشه، وبذلك تستحق المعايشة، خصوصاً وأنها منبثقة من ظروف المنطقة المتوترة كلّها.
يعدُّ الأستاذ ياسرمطره جي ناثراً متمكّناً من أدواته اللّغويّة، ومن وظائف السجع الذي يُسهم في تقريب الفكرة، وهكذا نراه قد استوفى المعنى، وأجاد الصنعة، وأتقن البناء، وبلغ المراد، أمّا من الناحية النفسية فنجده قد نجح نجاحاً رائعاً في خلق ذلك الجوِّ النفسيِّ الحزين، الذي يجيش في نفسه، فيودّ أن ينقله إلينا لتنفض مكنوناتها و تنفس همومها، وقد حقق مبدعنا الفذ ذلك، بإيحاء فني متفرد، معبّر عن مدى تذمره وحزنه من واقع السنبلة الحزينة، المرتعدة رعباً من غطرسة العدو وتنكيله، صاغ كلّ ذلك في صور وأخيلة وإحساسات مؤلمة، غذت بحس مرهف متجذر، حاسة التعاطف مع هموم فلسطين وآلامها و آمالها
مجد المبدع رمزياً العدل، والسلم، والحرية، والصمود، داخل الوطن العربي، بل نجح في جعل النص منفتحا على قضايا
عربية أكبر قد تشمل العراق ولبنان أيضا لأن المصاب واحد، وبذلك كلِّهِ، تعدّ إسهاماته وازنة، في الدفاع عن الوحدة العربية، بأسلوب أدبي رفيع خلاب


بقلم: نورة الودغيري
.......................

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بكم..
أشرف بتعليقاتكم..
محبتى