الأحد، 25 أبريل 2010

بلاغة المفارقة في “انبلاجات” أحمد المريخي بقلم: د. شعيب خلف

15711581160515831575160416051585161015821610.jpg

أحمد المريخي

بلاغة المفارقة في “انبلاجاتأحمد المريخي


بقلم: د। شعيب خلف



حين تقرأ ديوان أحمد المريخي “ضد رغبتي” تحدثك نفسك بمعاودة القراءة مرة ومرة وتشي لك بأن ما قرأته عمل سوّاه صاحبه علي نار هادئة؛ فكر عميق، ورؤية موجزة ثاقبة، وحكمة شيوخ عركوا الحياة وعركتهم، وفلسفة ظلت حائرة بين قلب الشاعر وعقل الفيلسوف ورؤى العارف، فخرجت سيلاً جارفًا من المشاعر والأحاسيس والحكم والتجليات.

الديوان يقع في ثلاث أقسام حملت عناوين “الانبلاجات – رغم ذلك – المسودة“، يضم كل قسم مجموعة من القصائد متوازية ومتناسقة فيما بينها، بما يشكل عددا من الدلالات. بينما يحمل الديوان تجربة كلية قادرة علي إقامة حوار نقدي عال، لكننا هنا سوف نتناول قصائد القسم الأول الذي حمل عنوان الانبلاجات كنموذج لـ “المفارقة” في ديوان “ضد رغبتي“. في الديوان تطالعك المفارقة بدلالتها بداية من العنوان “ضد رغبتي”، ومرورا بالإهداء الذي جاء علي هيئة نداء؛ (آلو.. يا أصدقائي الذين أحبهم كما أحبتني أمي.. آلوووووه)

والنداء هنا يحمل معني الاستغاثة التي تطلب من ينجد ويغيث، وقد جاء حاملاً للمفارقة من خلال خطاب “الغياب/ الحضور” الذي تحقق عن طريق لغة الهاتف التي تحمل أكثر من دلالة: دلالة الغياب، ودلالة الحضور، ودلالة “الجماعة/ الوحدة” فهو يخاطب الأصدقاء “الحضور في القلب والضمير” بلغة الغياب “الهاتف”، فتكمن المفارقة في البعد وعدم إجابة الخطاب بدليل “آلو” الأولي التي تحمل نفسًا قصيرًا ومساحة صوتية تناسب بداية الحوار، كما تناسب التودد والحميمية، لكن “آلووووه” الثانية تأخذ الدلالة الصوتية للمد والتكرار لحرف الواو معني الغياب وعدم الاستجابة، ويكمن “الغياب/ الحضور” في الفعل “أحب” فهو يحبهم كما أحبته أمه. ثم يأتي التصدير الذي يرتبط بالإهداء حين يصرح قائلاً: (كان يمكن لنا أن نصبح عائلة واحدة../ لكننا فكرنا في ذلك علي انفراد)

في قصائد “الانبلاجات”، وهي كما يشير الشاعر في الهامش، “حالات متوازية” تستمر معنا المفارقة حين يقول: (الابتسامة التي فرضها المصور/ علي وجهي في العام الماضي../أفسدت الصورة التي رسمها الله لي/ منذ ثلاثين عاما) هذا الإطار الفلسفي الذي نشأت فيه هذه المفارقة يوحي بالوعي العالي بالذات التي هي صورة للوعي بالعالم الذي ينطوي بدوره وفي جوهره علي تناقض تريد الذات أن تمسك بأطرافه المتناقضة، وهذا مبدئيًا لا يصدر إلا عن ذات وذهن متوقدين.

وتستمر المفارقة في باقي الحالات، فلو استعرضنا هذه الحالة الثانية والتي تظهر فيها الذات المتوقدة تحاول الخروج علي المحدود، الخروج علي قيود الزمان والمكان التي تقيد حركتها، فتظهر لنا الأنا التي انفصلت لتوها عن الـ “نحن” لتحاول أن تقيم علاقة مع الذات لكي تحقق ما تحاوله من بعد عن العزلة: (وأنا../ أعري صدري للسما..

ندت نجمة؛ قالت: لماذا تعري للسما.. - كي تدخلي،

فدخلت نجمة غير التي.. يا نجمة: لم تدخلين ؟

قالت: ولم تعري للسما جسد السنين؟! - كي تهبطي،

فهبطت نجمة غير التي.. يا نجمة: لم تهبطين؟

قالت: ليس بعد: ليس بعد: يا أيها الولد الحزين…) هنا تتحقق المفارقة الضدية التي تتصل بعنوان الديوان والتي تأتي من خلال اللعب باللغة مع التظاهر بالبراءة والسذاجة أحيانًا، فيصنع هذه السردية التي تقدم من خلال هذا التبادل الحواري براءة هذا الصانع للمفارقة والذي يحاول أن يقوم ومن خلال هذا الحوار بكسر العلاقة بين السبب والمسبب، لأن منطقية الأشياء تاهت ومن هنا تتوه الحقيقة التي هي ناتج طبيعي لهذه المنطقية؛ علي الرغم من أن الحوار بدأ من نقطة وانتهي في نقطة ومن هنا يتحقق الإحساس بالخديعة الذي يظهر لنا جليًا ونحن نحاول الاستمرار في القراءة.

(عاريًا جئتُ../ إلا من الذي به عُـلِّـقت…) ثـم: (راضعًا من خبز أمي زبدًا وإداما/ وحين انفلات الرجولة من جسد الغلام/ تبخر الزبد ففاح الإدام)

هنا يقدم تاريخًا للذات التي هي تاريخ الإنسان وتكوينه ليصل ربما من خلال هذا الأمر إلي بناء حقيقة منطقية أو واقع صلب يقف عليه ولكنه يفاجأ بأن هذا يتبخر والحقيقة وهمية وأن ما ظن أنه يمتلكه خدع به فيراه وهمًا، وهذا ما يؤكده في باقي انبلاجاته : (ورسمت شجرة/ علقت فيها الربيع../ ولما جاء الخريف استدارت/ مرت علي مرفقي وقالت: سلامًا!!) هنا تبرز المفارقة لا علي مستوي اللغة وحسب، إنما علي مستوي الموقف أيضا.

ثــم: (وفي المساء/ أوقد أحلامي../ كأرملة تتحسس أطفالها في المنام) الذات هنا عارية من غطاء المؤانسة ولذلك تحمل قدرًا كبيرًا من الخوف الذي يظهر من خلال الفعل “تتحسس”، كما أن هذه الأحلام تخلو من الميراث الأبوي بعد يتمها ومن هنا تستمر في المواجهة: (تحركت ضدي/ فقابلت ضدي/ وصرنا ضدين../ضدي !!)

هنا يلعب الشاعر علي الشيء ونقيضه، والشيء وما يعارضه، والشيء وضده، لكن هل يتحقق هذا من خلال ذات عادية طبيعية، لا أظن ذلك بل إن الأمر يجب أن يتعدي هذه الذات ويتجاوزها ولابد لصاحب المفارقة أن يقوم بهذا الأمر عن وعي، لأنه هنا يقف بها في حالة صراع بين المعلوم والمجهول، فهذه الصورة تقف بك بين الممكن والمحال ويتزامن فيها المعلوم والمجهول، وتبقي نهاياتها مفتوحة إلي ما لا نهاية من الضدية والتناقض. (ثمة شيء يؤخذ عليّ: أشعرُ أن الكون محايد/ وأنا قد انحاز إليّ)

الإنسان كذات عاجز عن معرفة الوجود معرفة متكاملة، فمعرفته محصورة في إطار ما يدركه من معرفة جزئية، والأنا وجود، والوجود مرتبط أو مرادف للحرية، لكن هل العلاقة بين الأنا والكون علاقة واضحة المعالم؟ ربما تكون الإجابة بالنفي لأن الأنا غالبًا ما تريد أن تجعل من نفسها حقيقة قائمة بذاتها، وهذا لا ينفي أن يكون الوعي بالذات وعيا بالآخرين كذلك، لكن الوعي بالذات في ظل هذه العلاقة مع الكون يدخل في حالة من الصراع الدائم والتمزق خاصة إذا كانت هذه الذات في جذب دائم مع هذا الكون، ومن هنا تأتي هذه الحالة الشعرية: (أخبرتهم أن الذي/ قد مات.. مات/ وأننا لما نزل../ نحاول الحياة)

هذه هي علاقة الشد والجذب مع الكون والحياة والذوات الآخري، وهي بدورها لا تستغني عن المفارقة التي تولد الحياة من الموت والموت من الحياة. هذا الصراع بين الذات والذوات الآخري لا يستغني عن لغة المفارقة: (ووقتًا ما/ سأحاول أن أموت/ لكنني لن أستطيع/ ربما لا أخشي الموت/ ربما أخشاه/ ووقتًا ما/ إما سيقتلني/ أو سأنساه!!) يتأجج الصراع بين الذات وبين الكون، أو إن شئت الدقة بين إدراك الذات وإدراك الكون، ومن هنا تقاوم الأنا الاستغراق في نفسها، لتخرج عليها لتقف في صراع مع الوجود ونفي الوجود الذي يصحبه دائمًا هذا التشتت والتذبذب بين الفعل وضده، كما حدث في الحالة الشعرية السابقة التي تأتي نموذجًا لهذا التذبذب، بين الحياة والموت، بين الخوف والشجاعة، بين الخشية والمواجهة، ثم المحاولة المستميتة للخروج للانتصار علي هذا التذبذب الذي يمكن أن يصل بصاحبه إلي حالة من العزلة كما توحي الحالات الشعرية المتتالية:

(؛؛ …………….! ومن يرفضه الموت/ ماذا تفعل به الحياة ؟!!

؛؛…………………! يواريه التراب وينبشُ..)

هنا قمة السخرية التي هي من أهم سمات المفارقة، حين تصل الذات إلي حالة من المأساة عندما تتجرد من حياتها مع الجماعة فلا تستطيع مواصلة التواصل وتدخل الذات في حالة من العزلة الناتجة عن حالة الرفض التي أبرزتها المفارقة بين الحياة والموت والقبول والرفض، هذه الحالة في الغالب تحاول الذات هنا أن تتمسك بها للاعتراف بالعجزعن الاستمرار في هذا الصراع الذي هو في الأساس جاء لإثبات استمرار وجود الذات مع هذا الكون والهروب من العزلة للحياة: (يريدون أن أعلل موتي !!/ …………………..،،/ وبماذا أعلل روح السمك خارج المياه إذا كان كوردة لا يذبل رحيقها أبدا؟)

ثم يعود الشاعر لينتصر علي عزلته الوهمية التي فرضها عليه إبداعيًا خطابه الفلسفي، والوحيد القادر علي الخروج بصاحبه من هذه العزلة حين يحقق لنفسه دورًا كان يصبو إليه من خلال علاقة جليلة مع المثل الأعلي، أي أن ما يقوم به الإنسان من دور في حركة المجتمع والحياة، خاصة إذا كان هذا الإنسان شاعرًا قادراً علي تقديم تجربته في ثوب مختلف، هنا يظهر دور المخلص سواء كان رسولاً أو شاعرًا: (إذن اصطفاك الله…/ تعيش مشردًا/ إلي أن يجيء وراءك المستقرون) هذا الاصطفاء لا ينال شرفه إلا المرسلون والأنبياء والمخلصون الذين وهبوا أنفسهم لإعادة صياغة الناس وتقويم ما أعوج، لكن المفارقة أيضًا تأتي علي مستوي الحدث فنراه يركز علي عدم الاستجابة وضياع تلقي الخطاب فيقول: (أصحو في الحافلة/ من حَولي .. حَولي/ والحافلة هي الحافلة)

هو وحده اليقظ، لكن الناس نيام، لا حياة لمن تنادي، فيستخدم المفارقة للسخرية من الموقف: (الأرض استوت/ لكن لطرح…/ دخان)

ويقول أيضًا بنفس التوجه وبنفس لغة المفارقة: (اكتملت أسلحتي/ بعد أن انتهت الحروب!) ويستمر في استخدامه للمفارقة سواء علي مستوي الحدث أو علي مستوي اللغة ليقدم سخرية دائمة من السكون والثبات ويقاوم إلي أقصي درجات المقاومة حتى لا تحدث الانتكاسة ويصيبه الملل فهو في حالة توجه دائم مع الذات ومع المحيط في سخرية ربما تقلل من قتامة الواقع وسوداويته وربما تزيده لكنها في الأصل لا تنسي الغرض الأساسي وهو إعادة تشكيله وصياغته : (يا أيها البردان/ آن الأوان/ فاخلع رداءك/ كي تغطي به الوطن)।


د. شعيب خلف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بكم..
أشرف بتعليقاتكم..
محبتى