الاثنين، 19 سبتمبر 2011

دوريس خوري بين الدهشة واللا متوقع بقلم : الدكتور بطرس دلة



دوريس خوري بين الدهشة واللا متوقع

بقلم : الدكتور بطرس دلة



يذكر القارئ أن الشاعرة دوريس خوري كانت قد أصدرت أكثر من ديوان فيما مضى وهي اليوم تطِلُّ علينا بديوانها الجديد (وعانقتني شمسُها).

يختلف هذا الديوان عما سبقه لأننا نلمسُ فيه أثر بحور الخليل بن أحمد في معظم قصائده مع أن الشاعرة في كتاباتها السابقة خرجت عن كل البحور وهي اليوم وان لم تكن مقتنعة كلَّ الاقتناع بأن الالتزام بالبحور الستة عشر هو الشعر الحقيقي؛ ولأنها تؤمن أن الكلمة الجميلة أكبر من أجمل بحر، لذلك نراها تراوح في شعرها بين العمودي المقفى والشعر الحر .من هنا نجد شاعرتنا تخلط في قصائد هذا الديوان بين الصنفين.

نحن لا نريد في هذا التقديم التعرض للصراع القائم بين محبذي الشعر العمودي والمتعصبين له وبين المنطلقين من قيود البحور والقوافي فيما يُسمى باسم الثورة على التقاليد وفكرة التجديد. فالأوائل يدَّعون وبصدق أن القصيدة الموزونة والمقفاة أسهل على الحفظ من الشعر الحر أما الآخرون المجددون فيدعون أن الشعر الحر هو انطلاقة خارج قيود المألوف، وهو ثورة على الموروثات وتحرّرٌّ وانعتاق كم نحن بحاجة إليهما .

والآن إلى مضمون الديوان ولغته الفنيَّة: يبدأ الديوان بقصيدة كان يا ما كان، هذه القصيدة فيها رمزية تتماهى فيها الشاعرة بين حياة المرأة الأنثى والأرض وكلاهما زينة الحياة فهن يحملن في أحشائهن استمرارية الحياة ويعطين أشهى الثمار في بستان الحياة وهي تسأل في القصيدة كيف اهتدى الإنسان وشرب خمرتها فأسكرته الكلمات وكيف أودعت ثمارها بين يديه حيث دنا من قدس أقداسها فهي تحذر حارس البستان من الذئاب البشرية التي تهاجم وتنتهك حرمات الأرض والمرأة على السواء في مجتمع شرقي ذكوري لا يرحم وعندما كانت كزهرة برية في بستان أحلامها فجاء من يقطفها ويستبيح كلُّ أوراق هذه الزهرة حتى عطرها وذلك بعد أن اطَّلع على كلِّ أسرارها وكتبت له وعزفت أجمل أشعارها فصار بستانها جنَّتَهُ على الأرض.

أما قصيدتها الثانية بعنوان: ما اسمُكِ يا عروس! فهي قصيدة الفكر والتساؤل عن الأرض والإنسان. هذان الأقنومان في علاقتهما البسيطة والمعقدة هما عنصرا الحياة: فالأرض ترى أن الإنسان يحارب أخاه الإنسان فيخضِّب الأرض بدمائه ويحارب أخاه ظلماً وعدواناً ولذلك فإن الأرض لا ترضى أن تُتَّهَم بالمسؤولية عن هذه الدماء المسفوكة حتى ولو كانت مسفوكة في الصراع البشري حول السؤال : من يملك الأرض ولمَنْ تتبع؛! فمطامع الإنسان في امتلاك نصيبٍ أكبر كما في الصراع الشرق أوسطي ، فان الحروب لن تهدأ إلا بزوال أطماع الطامعين .

وإذا مرَّ الزمان وناء بِكَلكَلِهِ على الحبيبين الزوجين فأنساهما طعم الحب الذي يجمع ما بين الرجل والمرأة فإنها تدعوه إلى تجديد ما كان لأنه كما قال جبران خليل جبران في المحبة مقولته الشهيرة!

الحب الذي لا يتجدَّدُ في كل يوم وليلةٍ ينقلب الى نوع من العبادة!

وهي تشكو لأن الحبيب أبعدها عن وطنها وبات حب هذا الوطن كامناً في ركنٍ خفيٍّ لذلك فهي تدعوه إلى التجدد بقولها:

ألا يا مقلة العين

تعالي لا تجافينا

تعالي فالغد الآتي

بأحلام تصابينا

في قصيدة عبثية الطقوس، قصيدة الدهشة وغير المتوقع تدخل الشاعرة في حوار وعتاب لوطنها ومهد أحلامها الذي ضيعته بسبب الحروب والنزاعات الطائفية التي شهدها شرقنا منذ أقدم العصور، هذا الوطن الحاضر الغائب أضاع منها النهى وأفقدها الرشد في اقتفاء أثره بعد أن كان غابة لوز سحرية وطن الوحي والإلهام ولم تكن ذات يوم بنتاً عاقةً لوطن المحبة والعطاء والإبداع الذي أعطاها الدُّرَ والياقوت ومنزلة تتيه فيها فتأخذ بالإنشاد إنشاد اللحن المنسجم في دروب الآباء والأجداد الذين كانوا محبين ومخلصين لذات الوطن ومن ثم تعود ثائرة يشدها الوجد وعشق المحبوب لأن كلماتها همجية عندما تنطبع قبلاته على جبينها والقبلات على الجبين هي قبلات الأهل وقبلات المراضاة بعد الخصام! فلماذا! يقبَّلُ جبينها بدلاً من شفتيها؟! القبلة على الجبين تعنى فراق المحبوب، هذا المحبوب الذي تؤرقها طقوسه العبثية اللاهية ! لأن حُبَّها هذه المرة يعود إلى لبنان من جديد منبع الأحلام وذكريات الطفولة التي لا تغيب عن ذاكرتها إنشاد هذه الشاعرة، يذكرنا بنشيد الإنشاد للملك سليمان عندما تُفصِح عن مكنوناتها فتقول: شممتَ عطري (ضمَمّْتَ رمَّاني) وقعالَ كرومي فيتيه القارئ ما بين حكايا ألف ليلة وليلة وبين نشيد الأنشاد للملك سليمان هذا التماهي في حقبات زمنية استحضرتها الشاعرة وصبّْتها في قوالب شعرية جذلى تتراقص لها القلوب وتنتفض نشوة بخمرة تلك الأبيات تجعلها في قصيدة الكرمة والكرَّام تستذكر ألهة الفينيق القدامى الذين كانوا يجنون ثمار الكروم في أرض كنعان ولبنان يجعلون منها خمرة تعطي الشفاء للمرضى ومع كل هذا الحنان والرقة الروحية والنشوة بخمرة الألهة يظهر تأثرها بدراسة اللاهوت والتماهي في العشق الالهي فهي لا تنسى عشتار وهي سر هذا الكون فتناجيها بقولها :

ايه عشتار عبير عطرك

قد برانا الداء في الجسم وصَبّّّْ

يا ديوملكيوس أنت المرتجى

ايه حورا أعطنا ما قد وجب

قد زرعتُ الارضَ حُباً جارفاً

وتطلعتُ الى أعلى الرُتَبْ !

في قصيدة وجع السنين:

تتذكر وطننا المقهور المعذب وطن العشاق والحكماء والبلغاء حتى الشعراء يهوون أرضه يقدسون زيته وقهوته وزعتره وماءه النمير هذا التجوال في رحاب الوطن لم يمنعها من الترحال والتحليق بالفكر فوق صحاري شرقنا الحبيب هذه القصيدة هي عنوان الديوان وعانقتني شَمْسُها كما فهمت من قراءتها تعتز الشاعرة بقوميتها العربية فهي تعتبر نفسها حبة رمل من رمال الصحراء وحبة تمر من شجر نخيلها فهي تعانق الصحراء بشغف ما بعده شغف وتخوض في القصيدة تجربة جديدة من نوع جديد فيه الشيء الكثير من الاعتزاز بالنفس فالصحراء تعلمها أن تكون بدائية في حبها وما أجمل هذه البدائية لأنها بعيدة عن البروتوكول قريبة الى الطبيعة وكما قال فولتير : تأتينا السعادة كلما اقتربنا من الطبيعة وكلما كنا بدائيين فهذه الخبرات الحياتية تبرز مواطن الجمال وتحوله الى سحر الهي ما بعده سحر فهي تعشق الصحراء بجنون وبصدق وتتقن هذا الفن بروعة كأنها وليدة الصحراء تخشى عليها من الغزاة والمحتلين حقاً وبصدق أن الشاعر لا يعرف الحدود الجغرافية للارض ولا الحقبة الزمنية لها انما يبقى في هيام دائم وتطواف بالخيال ما بعده تطواف هذه النماذج التي اقتبسناها من هذا الديوان لا تغنى عن قراءته حيث تتجلى شاعريتها بخصوبة رائعة ما بعدها روعة ونستشف من قصائدها الحس الانساني المرهف فهي تدور على جميع المحاور الإنسانية وتطرح تساؤلات لا نجد لها احياناً جوابا ً. هذه هي قدرة الشعر والشاعرة أهنئكِ أيتها الشاعرة المُجيدة وأتمنى لك دوام العطاء فقد حققت في هذا الديوان قفزة جيدة فإلى الأمام


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بكم..
أشرف بتعليقاتكم..
محبتى