الخميس، 15 سبتمبر 2011

"دخول السماء في شهر العيد" تتأرجح بين الغموض والقلق والإغتراب *بقلم: محمد هيبي*







الشاعرة وفاء فضل في باكورة أعمالها


"دخول السماء في شهر العيد"


تتأرجح بين الغموض والقلق والإغتراب



*بقلم: محمد هيبي*

صدر للشاعرة وفاء فضل، عن منشورات مجلة "مواقف" ودار الهدى للطباعة والنشر، ديوانها الأول بعنوان "دخول السماء في شهر العيد". ويتضمن هذا الديوان أربع قصائد، ثلاث منها طويلة، اثنتان منهما تحملان في داخلهما عناوين فرعية. الأولى "مطر امرأة أبيض" وفيها عنوانان فرعيان هما "أنتظر عينيها لكي أنام" و "رقص لا يحب الإنسلاخ". الثانية "يوم واحد في سماءٍ تماثلنا" وفيها أربعة عناوين فرعية هي: "وتعاكس وجوهنا"، "لكنها لا تحلم بنا"، فنتهم فيها أقدارنا" و "إلى من يكره السماء للأنها تماثل النهايات". والجدير بالذكر إنّ هذه العناوين الخمسة إذا قرأناها متواصلة كما ظهرت في الفهرس:

يوم واحد في سماءٍ تماثلنا

وتعاكس وجوهنا

لكنها لا تحلم بنا

فنتهم فيها أقدارنا

إلى من يكره السماء لأنها تماثل النهايات.

نجدها قطعة شعرية متماسكة تشي بمضمون القصيدة أو تلخصه.

الثالثة، "أسفار قصيرة في بكائيات بداية ومدينة تضحك". والرابعة، "في مثل هذا الوقت من الشهر". وتتميز القصائد الثلاث الأولى بأنها مقسمة إلى مقطوعات تحمل أرقاما متتالية.

يتميّز الديوان أيضا بأن الشاعرة صدّرته بعد الإهداء بثلات قطع شعرية لا تحمل عنوانا ولكنها ذكرت في الفهرس بعنوان "قبل النص". الأولى منها:

أسمع الصدى

أحتمل

الصوت

أنسى

الوقت

أبدأ بالتلاشي

وكذلك ختمت الشاعرة ديوانها أيضا بقطعة قصيرة بلا عنوان لكنها حمّلتها في الفهرس عنوان "آخر النص" :

حينما يكون الصوت

متوهّما بالصدى

يسبقه زمنٌ من عنقودٍ

لملمت أجزاءه الصور

ليس من الصعب، رغم ما في القطعتين من غموض، أن نرى الرابط بينهما، الصدى والصوت، ما يشي برؤية الشاعرة لما ضمّنته ديوانها من صور من "قبل النص" إلى "آخر النص".

الديوان، ورغم ما فيه من توتّر اللغة، والتأرجح بين الغموض والقلق والاغتراب، يبشّر بموهبة واعدة، ربما سيقال عنها الكثير لاحقا، خاصة إذا اهتم بعض ناقدينا، المختصّين بنقد الشعر، بما جاء في هذا الديوان وقدموا للديوان وللشاعرة من نقدهم البناء ما يشجعها على الاستمرار. لأنّ توتر اللغة واغتراب صاحبتها ليس مأخذا بقدر ما هو تعبير عن معاناة تعيشها الشاعرة وربما جيلها بأسره.

من خلال معرفتي القصيرة بالشاعرة وفاء فضل، ومن خلال قراءتي الأولى للديوان، وأعترف أنها لا تكفي لنقد موضوعي عميق، إلا أن هذه المعرفة وتلك القراءة كانتا كافيتين للوقوف على أن الديوان وما فيه من قصائد، بعناوينها، وعناوينها الداخلية وتقسيماتها وصورها وعباراتها وحتى بطريقة ربط الكلمات بعضها ببعض في تلك العبارات، ورغم ما فيها من ميل إلى الغموض، جاء مرآة صادقة لما تحمله الشاعرة وتعانيه. فقد عبّرت، في رأيي، وبشكل واضح عن نفسية قلقة تعاني هموم حياتها، الخاصة أحيانا والعامة أحيانا أخرى، وتقلباتها، مما جعلها تشعر بالاغتراب وتعيشه في ذاتها وفي مجتمعها.

ولكي لا أفسّر أنني أطلق أحكاما اعتباطية سوف أورد بعض الأمثلة التي أرجو أن تكون كافية لتوضيح تلك الأحكام التي أطلقتها.

أن وقفة صغيرة مع العنوان "دخول السماء في شهر العيد" تشي بالكثير. فدخول السماء لا أدعي أن له تفسير واحد، ولكن الموت والنهاية هما تفسير قريب، وإذا كانت النهاية في شهر العيد، شهر الفرح، فإنّ الصورة تصبح شديدة السواد. وإذا ربطنا هذا العنوان بالصورة التي تشكل خلفية له، والتي تمتد على غلافي الديوان، وهي خاصة بالشاعرة، كما جاء في الصفحة الثانية، وهي صورة للغروب في سماء كثيرة الغيوم السوداء في مدينة جبلية تعانق البحر، تشبه حيفا إن لم تكن هي، وهي مدينة الشاعرة، وإذا ربطنا هذه الخلفية مع القطعة الشعرية على الغلاف الأخير، سنجد أنّ الشاعرة مخنوقة، تكابد وتعاني وتتنفس بصعوبة، ولا تجد لها متنفسا إلا الكتابة، حيث تقول:

أفرشني كتابةً

فوق الغبار

فأنظف أثر المكان

أسحب أوصاله

ألفه رسالة

أمسح بشعلتها

رماد الديار

وأنثر الأخيرة

قصيدة تحت

أقدام الصغار

فيتناولونها لعبة

حينما

ينتهون من

البكاء

فالفرار

(الغلاف الأخير ومقتبسة من ص 78).

وعودة إلى العنوان، فبما أن شهر العيد لا يمكن أن يعبّر إلا عن الفرح، وبما أن "دخول السماء" يحتمل تأويلات أخرى غير النهاية أو الموت، ليس بالضرورة أقل سوداوية أو أكثر إشراقا، رغم ما جاء في إحدى القصائد "إلى من يكره السماء لأنها تماثل النهايات" (ص 69) فإنّ الصورة تصبح أكثر غموضا وهذا أيضا ليس مأخذا، بل تعبير عن قلق ومعاناة تعيشهما الشاعرة في أعماق نفسها.

وللاغتراب في الديوان أدلّة كثيرة، سأكتفي باثنين منها. أحدهما من الصور الشعرية والثاني من التراكيب اللغوية التي تنتثر على امتداد اليوان.

الصورة التالية أراها تعبّر عن اغتراب الشاعرة بشكل واضح وهو شعور يلازم الشاعرة في معظم ديوانها:

أستيقظ

منّي ولا أنظر في المرآة،

أبحث في الجوارير عن ابتسامتها،

نسيتُ تغليفها منذ الأعوام...

تلك، التي لا زالت تمضي مختالة بأقدارها ..

المكرَّسة لتقترن بانزواء الأيام

بجحر النسيان ... ف

تولد أوقاتٌ تليقُ بانتهازات

محطات سفر

للدمع المؤجّل

(ص 83-84).

العبارة الأولى "أستيقظ منّي" تدلّ على الانفصام والاغتراب عن الذات. الشاعرة تتعامل مع ذاتها كأنها ذات أخرى. و"ولا أنظر في المرآة" كما تقول، وذلك، كما أرى، لخوفها من مواجهة حقيقة الانفصام فالمرآة تعكس الحقيقة أو تقنّعها كما في مكان آخر. وهي (الشاعرة) تبحث، ليس عن ابتساماتها هي، بل عن ابتسامات الذات الأخرى التي كانت وصارت تنسى تغليفها في الجوارير. وهو انسلاخ آخر عن الذات. واستعمال ضمير الغائب هو تعبير عن الآخر، وعندما يكون الآخر داخل الأنا فإنّ شرخا ما قد حدث داخل الذات لتصبح "أنيين" يغترب أحدهما عن الآخر.

الدليل الثاني على الاغتراب، كما أسلفت، من التراكيب اللغوية التي تنتثر على امتداد الديوان. المتابع بنوع من الاهتمام للغة الشاعرة والتراكيب التي تكثر من استعمالها يجد أنها تستعمل بكثرة أضافة النكرة إلى النكرة. مثلاً: أقطار حياتين (ص 9)، طنين اشتباكات، أقاصيص مفترقات (ص 10)، سفر هروب (ص 11)، نسيان نجاح، أطراف خصلات (ص 12)، انطلاقة قدمين، هاوية أزمنة، سراب حقيقة (ص13)، حضور نهار، خداع حلم، طلاء أظافر (ص 14)، وهكذا فإن مثل هذه التراكيب تتكرر في كل صفحة تقريبا وأحيانا أكثر من مرة في الصفحة ذاتها. في رأيي ليس عبثا هذه الكثرة لمثل هذا النوع من التراكيب. ربما أبالغ أو أخطئ في فهمي وتأويلي، ولكنني لا أرى في هذه الكثرة من استعمال هذا النوع من التراكيب إلا تعبيرا عن التنكر للذات التي انسلخت عن ذاتها، وهو تجسيد للشعور بالاغتراب. وإذا كان لا بد من الحديث عن الإنسلاخ كتعبير عن الشعور بالاغتراب، فلننظر إلى بعض مطلع قصيدة "رقص لا يحب الانسلاخ" (ص 31) الذي لا يعبّر إلا عن الانسلاح:

تعذّرت أيامي عن ملازمة تبتّل الورد (انسلاخ بين أيامها وتبتل الورد)

فما زال الأخير متعطشا لدمعه (انسلاخ بين الأخير ودمعه)

الذي فارق حدود أنوثته (انسلاخ بين الأخير وحدود أنوثته)

قد أوهمتْهُ بالحرية (انسلاخ بينه وبين الحرية)

لا شك أنّ الشاعرة تكابد هموم زمن لا يخبّئ لنا إلا الهموم، على المستويين: الفردي والجمعي. وهي تزاوج أحيانا بين همها الفردي وهموم الآخرين ممن يستحقون اهتمامها أو بعضه أحيانا. وإذا كانت تعيش الاغتراب فلأنّ هذه الحياة بهمومها اللامتناهية تجعل الانسان يغترب عن ذاته، فما بالك عن الأخرين لا بل عن الزمان والمكان أيضا!؟

وعود عل بدء، فإن هذه الشاعرة في جعبتها الكثير وهو آتٍ لا محالة. وهي كما قلت لا تجد لها متنفسا إلا الكتابة، وكتابة الشعر تحديدأ. وهي منذ البدء مصرّة على أنّه ما زال في جعبتها الكثير. تكفي نظرة سريعة إلى الجزء الثاني من إهدائها لنتأكد من ذلك:

"إلى الصور التي لم أخطـّها بعد

منكِ الانتظار"

مرة أخرى، هذه قراءة سريعة، هي أقرب إلى التعريف منها إلى التقييم، بصعوبة تلمّست السطح وقليلا مما يخفيه، ولذا فإنني أرجو أن يقع هذا الديوان بين يدي ناقدينا الذين يختصون في نقد الشعر ويهمهم ما تقدمه هذه الأجيال الشابة من مواهب وتجارب تستحق الاهتمام.

(كابول)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بكم..
أشرف بتعليقاتكم..
محبتى