الاثنين، 30 أغسطس 2010

قطراتُ قلم حول ديوان -" غِبْطَةُ النَّحْتِ على أقدَامِ الرِّيَاح" لدانية بقسماطيّ ::



قطراتُ قلم حول ديوان -" غِبْطَةُ النَّحْتِ على أقدَامِ الرِّيَاح" لدانية بقسماطيّ ::
















بقلم:

مارون عيسى الخورى

......




بدأت الحداثة في الغرب الأوروبي بقيام الثّورة الصّناعيّة، فشرع الإنسان يشنّ حربه على الطبيعة للانتصار عليها وتجريدها من أسرارها وخباياها حتى وصل إلى قمّة القلق على حياته ومصيره في منتصف القرن الماضي مع اكتشاف الطاقة الذريّة وأسلحة الدمار الشامل.

بدأت الحداثة عندنا بمحمّد عليّ، بعد رحيل بونابرت عن أرض النّيل، بالمدرسة الحديثة وخرّيجيها من كتّاب ومفكرين، وبالمطبعة والجريدة والكتاب... الخ، وباتصال الغرب بالشّرق على نحو أفضل تجاريّاً وسياحيّاً وثقافيّاً، ولكنّ هَمَّ ما كنّا فيه من فقر وتخلّف وظلم السّلطة والأحكام والحّكام، لم يَعِ بثقلِه وفداحته ووِزْرِهُ إلاّ المفكّرون وحَمَلةُ الأقلام من مفكرين وكتّاب وشعراء، وكان للآخرين منهم فضل حثّ الناس على التّغيير والانتقال إلى حالٍ أفضل من خلال شعرهم الاجتماعيّ والسياسيّ، وقلّما كان لشعر التأمّل بالذّات، فرداً وجماعة، وبالمصير نصيب يُذكر. والفرق بين الحداثتين، أن الأوروبيّة منهما واكبت ثورات صناعيّة واجتماعيّة وعقليّة ودينيّة أثّرت في نظرة الإنسان إلى نفسه، وإلى الوجود وما وراءه ونتجت عنها تغيرّاتٌ جمّة إنعكست بطبيعة الحال على وجدانه الفنّي، وتجلّت في تعبيره الشعريّ، فيما يصحّ أن نسّميه ثورة الشعر الحديث أوجملة من ثوراته، وأمّا الحداثة عندنا فلم تعرف شيئاً من هذا، فهي لم تصاحب أيّاً من الثورات التي عرفتها أوروبة حتى تنفعل نظرته بها إبّان تطلّعه إلى الذّات والوجود وما بعده، وانّما كانت حداثة محاكاة للشعر الآخر تأتّت له من فرط إدمانِ قراءته له، فتسرّب إلى شعره التقليديّ نُسغٌ من التجديد طاول المضمون بنوع خاصّ، وبعض الاسلوب في ألفاظه وتراكيبه وشىء من صوره وموسيقاه.

ومن أبرز مَنْ مثّل هذا الايحاه خليل مطران وجماعة أبولو.

على أنّ ثمّة التباساً قد وقع في أذهان الباحثين بين الحداثة والمعاصرة. فالحداثة الشعريّة هي الثّورة على ترسّم خطى الأقدمين في موروثهم الإبداعيّ، والتزام حركة الزّمن في تقدّمها خطوة خطوة بالتعبير عن التغيّر الذي يصحب الإنسان في فعله وفكره ومعاشه ووجدانه وفنّه... الخ. فإذا تراكم جماع هذه الثورة بعد حين أفضى إلى كيفٍ جديد حاضر سمّيناه المعاصرة. وعلى هذا فالمعاصرة هي كيفيّة جديدة في سياق الحداثة.

مجموعة شعريّة لدانية بقسماطيّ - صدرت حديثاً عن دار تالة، دمشق 2010

إنّ شوقي وحافظ والأخطل الصغير حديثون، بينما السّياب والبياتيّ وبلند الحيدريّ معاصرون، ومثلهم محمود درويش وأدونيس اللذين تألّقا أكثر من رواد المعاصرة في صورهما، إنْ في المناخ الانساني عند الأول، وفي المناخ الصوفي عند الثاني. وقد نَحَتِ القصيدة عند المعاصرين الأوليين منحىً ثوريّاً في تحطيم قوالب الفراهيدي، فما عاد البيت ذا شطرين لهما تفاعيل معلومة ورويّ واحد، بل صار البيت سطراً يلتزم تفعيلة محدّدة دون أدنى حساب لعددها ولا تقيّد برويها الواحد، أوالتمسك به أحياناً. وانتقلت القصيدة الجديدة أيضاً من وحدة البيت إلى وحدة النصّ مجتمعاً. أمّا المعاصرون اللاحقون فأكثرهم تخلّوا عن التفعيلة الواحدة المعتمدة، أي أنهم استغنوا عن الموسيقى الرتيبة المتولدة عن تكرار تفعيلتها والايقاع الذي يتولّد من تركيب اللفظ نفسه وموقعه في تأليف الجملة، ومن الإيقاع النفسي الذي تخلقه الصور البكر في السمع والقلب معاً. ذلك أن موسيقى الخليل بن أحمد لم تعد ركناً من أركان الشعر. فلهؤلاء الشعراء رأي في الشعر يختلف عن رأي ارسطوومن جاء بعده من المنظّرين العرب في تقسيمه إلى نثر، وهو، الكلام المطلق من كل قيّد، وشعر وهوالكلام المقيّد بالوزن والقافيّة، أي على رأي أحد الشعراء الفرنسيين : النثر مشيٌّ والشعر رقصٌ.

وعند هؤلاء المعاصرين الجدد: كلّ كلام إبداعي شعر ولا داعٍ للوزن والموسيقى والقافية لتصنيفه شعراً، وما عدا ذلك فنثرٌ كالقصّة والمقالة والبحث على أنواعه، والرسالة والنقد... ومن أدلتّهم على ذلك نشيد الأناشيد لسليمان الحكيم فاذا قرأته مترجماً نثراً تحسّ انك تقرأ أعظم قصيدة غزلية في العزّة الالهية كتبت حتى الآن، لما فيها من وصف تعبّر عنه صور هي – على شيوعها – مبتكرة في تركيبها وترتيبها، فقِصرُ الجمل التي حملتها، ورشاقة مفرداتها التي تؤلف مناخاً موسيقياً يتوازى في السمع والقلب مع معانيها ومقاصدها، مع العلم أنها مكتوبة شعراً بلغتها الأصلية. والأمثلة على مثل نشيد الأناشيد لا تحصى في العربيّة أوفي بعض المنقول من المتون الأجنبيّة لأنّها تحمل صفة الإبداع creation أي الاتيان بما لا مثيل له، أوالابتداع invention أي إبتكار على غير مثال سابق.

من هذا المنحى في الكتابة نلِجُ عالَمَ دانية بقسماطيّ الشعريّ.

لا بدّ لي من أن أُشير إلى أنّ هذه المجموعة الشّعريّة ليست بحاجة إلى تقديم بعدما سبقتها سنة 2006 مجموعة أولى بعنوان " عَبَرَ... من هُنا " لفتت انتباه المهتمّين بالمحاولات الجادّة نقّاداً ومتذوّقين، وقُرّظت بكلام محكيّ ومكتوب هو– على قلّته – قمينٌ بالتقدير لِمَا في طيّاته من تفاؤل واستبشار باطلالة شاعرة شابّة أفلحتْ بانطلاقتها الأولى في أن تنحو بالصّورة الشّعريّة نحْوَاً تماهت مع صُوَرِ أشياخٍ عندنا طَوَوا العمر في هندسة البناء الشعريّ تجديداً وابتكاراً. ولكنها حفلت بمواجع بالغة الألم حطّت في جلجلان قلبها زَمَن اليفاع ولّما تخرج من قمّعِ أذنيها بَعْدُ بتمامها لهذا فانّ نُضاضة من سواد الماضي صبغت صفحات هذا الديوان إلى جانب رماديٍّ مفضٍ إلى بياضٍ مبلّلٍ بالفرح والأمل بالحياة الواعدة، ولستُ أخشى على هذا النّسج المعاصر الذي تحوكه الشاعرة من براثن الماضويّ وهراشِهِ لتمزيقه والحكم على بطلانه بدافع من خلفيته الحاقدة على كلّ جديد...

وإذا اتّفق لمثله أن تعامل مع نص شعريّ معاصر من النوع الذي أمامه مثلاً، ليس مكتوباً بحبر دواته، ولا هومن ذائقة زمنه العاتم، واستغلق عليه سرّ مفتاحه لتدبّر فتح قُفْلِهِ، اعتقد، وهماً، أنّه أمام نصّ تعدّد وجهُ حرفه، فَحَار على أيّ حرفٍ يقع، واستبدّ به تردّدٌ وارتباك لاشتباهه بأنّ الحرف الذي رَسَبَ عليه جهدُهُ ليس واثقاً من صحته أوخطأه، فيكفرُ بالمعاصرة شعراً وحرفاً وأداءً، ويرتدّ إلى كهفه وحصيره وخَلَقِ أطماره، بإزاء تَرَفٍ، وثير يرفد به الآخر... إن اكتشاف الذّات، والغوص في عمق ما يعتريها من تمزّق أوما تشعر به من سعادة هما، على مضيض الأوّل ودَعَةِ الثّانية، حافزان على البحث عن طُرُقٍ في الخلّقِ جديدة، ووسائل في التّعبير فريدة، ذلك أنّ الشاعر الذي تبعّضَ بين أشواك الحضارة المعاصرة وأريج زهرها كيانُهُ، ألزمُ في ممارسة إبداعه بفنه وعقله لكشف ذلك من الفيلسوف الذي يعالجه بعقله دون فنّ، وقد توزّعت الفنون المعاصرة، وعلى رأسها الشعر، في مدارس ومذاهب، تمازجت في شعر دانية بقسماطي تمازجاً يصعب تحديد مقداره وإنْ يكن لأحدها غلبة ظاهرة:

- فالتعبير عن العواطف والأفكار بالتلميح عِوَض الأسلوب التقريريّ المباشر قادها إلى ساحل الرمزيّة symbolisme ،

- وإحياؤها الطبيعة، وخلعُ روح إنسانيّة عليها يجعلانها تشعر، وتفرح، وتتألّم، وتحاور، وتصادق... أدخلها في رحاب الإحيائيّة Animisme،

- وأساس هذا الاتّجاه في إحياء الطّبيعة بما فيها من سماء وشمس وغيوم وبرق ورعد... والأرض وما عليها من جبال وسفوح وأودية وأنهار وسواقٍ وشجر وزهرٍ وثمرٍ... والارتماء في أحضانها... هو أحد عناصر الرومانسيّة Romantisme،

- وانتقالها من العمل في ميدان الطّبيعة الخارجيّة إلى العمل في ميدان الطّبيعة الانسانيّة داخلَ الذات نقلها إلى التجريد Abstractionnisme، فضلاً عن ظاهرتين بارزتين في ثنايا بعض النصّوص هما:

- تعارض مشاعرها وأفكارها مع معظم مشاعر مَنْ يحيطون بها وأفكارهم، ممّا حملها على الشّعور بالوحدة والوحشة Melancolie ،

هذا التّعارض في مشاعرها مع الآخرين ضمنَ المجتمع الذي تعيش فيه ملأها بالشّعور بالوحدة كذلك Sentiment De Solitude ، لكنّ الغربة والوحدة اللتين تغلغلتا في حناياها وانعكستا على بعض شعرها لن تجعلاه محبوساً عليها وحدها، فكلّ مَنْ يقربها في نشأته وتربيته وتركيبه النّفسيّ، والشعور المرهف، يَجدُ في شعرها ما يمثّله في غربتها ووحشتها، ما عدا الموهوبين منهم فسيكون لهم أبجديّة أكثر اتّصالاً بتغيّر الزّمن ومحنه. وباستثناء هاتين الظّاهرتين، فإنّ صورها الشّعريّة مشبعّة ببريق من الأمل والفرح، مُطِلّةٌ على آتٍ شامس ترتاح فيه من ليالي الهواجس وكوابيس الأفكار المزعجة...

يبقى أن ثمة سؤالاً يُطرح ولا بُدّ له من جواب وهو:

لمن تكتب دانية بقسماطي ؟

هل هي من أصحاب الالتزام Engagement تكتب للشّارع وجماهيره؟

بالتأكيد لا، فحسّها السّياسيّ والاجتماعيّ بالمعنى الشّائع الذي بَلَغَ حدّ الابتذال لا أثر له في نفسها، كلّ ما في الأمر أنّها عربيّة النّجار وتحبّ وطنها أشدّ الحبّ. أم تُراها من أنصار مدرسة الفنّ للفنّ L’art pour L’art تكتب الشّعر لغاية جماليّة؟

واقع الأمر أنّها تتوخّى الجمال في ما تكتب على سبيل الموائمة السّائغة بين الحرف (المعنى) ورسمه (أدائه) لا إرضاء للفنّ بحدّ ذاته. وبكل بساطة، وبعيداً عن أيّ تنظير مُفْتَعَلٍ، إنّ الشّاعر في المطلق أكبر من المذاهب والعروض، ما اللغة السّليمة إلاّ وسيلة إفصاح جماليّة لتجربة ذاتيّة أو إجتماعيّة أوإنسانيّة يعانيها ويعبّر عنها بالطّريقة التي تفرضها المعاصرة.

ترى، أولم تفعل هذه الشّاعرة ذلك حين أفاضت تجربتها الذّاتية ذات البعدين الاجتماعيّ والانسانيّ على ورقات أزهرت صفحاتها البيض، فشاع فوقها الأسود والأحمر

والأصفر والأخضر...

وبعد، ما أحوجَ مدينةً ما عادت فيحاء، تختنق برحيل ليمونها وزهرِهِ وفَوْحِهِ، إلى دوانٍ ودانين، يملأون أرجاءها بشجرِ شعرٍ ذي زهر نضير وفوح جديد.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بكم..
أشرف بتعليقاتكم..
محبتى