الأحد، 15 أغسطس 2010

حقيبة الرسول " لمحمد صالح البحر .. وخلخلة الأنساق الثقافية دراسة بقلم الدكتور/ ممدوح فراج النابي



دكتور ممدوح النابى


حقيبة الرسول " لمحمد صالح البحر ..

وخلخلة الأنساق الثقافية


دراسة بقلم الدكتور/ ممدوح فراج النابي





محمد صالح البحر ، كاتب من جنوب مصر ، محافظة قنا ، أصدر حتى الآن مجموعتين قصصيتين [ أزمنة الآخرين 1999 ، وثلاث خطوات باتجاه السماء 2008] ، ورواية " موت وردة " عن دائرة الثقافة والإعلام بحكومة الشارقة 2004 ، وها هي الرواية الثانية له " حقيبة الرسول " عن دار العين، نيسان 2010 ، ومع أن رحلة الكاتب الإبداعية بدأت منذ تسعينيات القرن الماضي ، إلا أن نتاجه الإبداعي يبدو شحيحًا بعض الشيئ مقارنة بزملائه من نفس الجيل والجيل الذي تلاه ، ومع هذا فالإقلال أضفى ثقلاً وزخمًا على تجربة الكاتب وهو ما تبلّور واضحًا في هذه الرواية التي نحن بصددها ، ومن جانب آخر تبدو هذه الرواية استثمارًا جماليًا وشكليًا لتجربة الكاتب القصصية والروائية على حدٍّ سواء ، فالمخزون الذي يتكئ عليه الكاتب هو واقع الجنوب في صعيد مصر ، بكل ما يحمل من قَسْوةٍ مُفْرِطَةٍ وأسطورة مُصاغة ، قلّما تجد لهما مثيلاً في مكانٍ آخر غيره .




(1)

هنا في " حقيبة الرسول " لا يستلهم / يستحضر الكاتب الواقع الجاسم ، بقسوته وأشخاصه ، وإنما يعيد إنتاج هذا الواقع وفق نسق معرفي / ثقافي ، مغاير عما هو سائد في النتاجات / الخطابات التي تناولت مثل هذه البيئة ، وهو ما يميز هذه الرواية في أحد مستوياتها ، فالكاتب هنا – وهو ابن بيئته – يتجاوز الواقع المعيش إلى واقع مضفّر بأسطورة هي نِتَاجُ فِعْلِ المكان لا تخرج منه. وفي ذات الوقت لا يقوم الكاتب بتكريس أنساق ثقافية وقبلية سائدة في مثل هذه البيئات ، حتى صارت تيمات وأكليشهات جاهزة لخطابات خضعت لها حتى تكلَّست ، وإنما يسعي لخلخلتها وزحزحت بنيتها ، واستبدالها بأنساق مغايرة تكشف عن وعي جديد / مغاير ، يري في مثل هذه الأنساق ، تابوهات وتيمات بائدة تعيق حركة المجتمع نحو التقدم .
" محمد صالح البحر" هنا يعمل على إعادة تشكيل هذا الواقع الذي يعيشه وفق أنساقٍ جديدةٍ ، فيقدِّمُ لنا شخوصه وهم محملّون بإرثٍ مُفْجِعٍ لواقعٍ مُفْرِطٍ في القسوة ، وفوق هذا وذاك مسوَّرين بأنساق تُعاقِبُ مَنْ يخترق أعرافه ( لاحظ قتل بنت الشيخ موسي لحملها سِفاحًا، وعقاب مريم لرفضها الزواج من ابن عمها) . لكن الجميل هنا والجديد في أنٍ واحدٍ أن الكاتب حَمّلَ شخوصه بحمولات دفاعية ، تجعلهم قادرين على تجاوز هذه الأنساق تارةً و تارةً أخري استبدالها بنسق معرفي آخر يتواءم مع الطرح الأيديولوجي للكاتب ، الذي يتمرد على كل شيء لا لشيء سوي إثبات الذات ، وهو ما انعكس علي شخصياته .

بمعنى آخر تسعى هذه الرواية وفق هذا المنظور إلي خلخلة الأنساق الجاهزة والتمرد على الأنظمة الأبوية السائدة ؛ لذا نري جميع الشخصيات تسعي وفق نسق معرفي إلى إعادة تشكيل واقعهم بقبحه وجمالياته وفق هذه المعرفة التي ليست بطبيعة الأمر معرفة حدسية، بقدر ما هي معرفة قبلية / متوارثة يحتكم إليها الجميع وفق هذا النمط العشائري / القبلي الذي يسود في مثل هذه البيئات ، ولكن مع فارق أنها مصاغه عبر وعيه هو، كما إنها ليست مفروضه عليه من سُلطة أبوية أيّا كانت هذه الأبوية فرد ( لاحظ محاولة بنت الشيخ موسي لإرغام الأب إبراهيم على الزواج بها بالقوة من خلال الفضيحة ) أو جماعة ( لاحظ موقف الأب من أهل بنت الشيخ موسي ورفضه الامتثال لقرار الزواج من ابنتهم ، وكذلك رفضه لقرار أسرته بأن يتزوج ) أو حتى سلطة ( مثل رفضه لقرار عبد الناصر بالحرب وإرغامه على الاستمرار ولهذا نجد الإدانة لعبد الناصر وتحميله النكسة).

(2)




وفق هذا المنظور جاء التناص الكلي فالرواية في مجملها هي استثمار لقصة الذبيح في التراث الديني الإسلامي ، لكن جاء التناص وفق عملية الخلخلة وإعادة التراتب في البنية والأنساق المعرفية . لذا نجد من ضمن استراتيجيات السرد أثناء عملية التناص، الزحزحة والخلخلة التي يتنباها الراوي على مدار الرواية كلها ، فالكاتب يستلهم قصة سيدنا إبراهيم والسيدة هاجر وابنه إسماعيل ، لكن دون الاحتفاظ بالأحداث والشخصيات حسب التراتب القصصي والحكائي في القرآن أو كتب التاريخ والحوليات ، وإنما يعيد إنتاجها في نصه الجديد وفق سياق نصي جديد ، ربما مغاير في بعض الأحيان لهذه التراتبية في البناء الحكائي ، وإن كان هذا لا يبرر وقوع الكاتب في بعض الأخطاء التاريخية ، فسارة هي التي كانت عقيمًا وليست هاجر ، وكما أن هاجر لم تسع إليه بل هو سعى إليها بدافع من سارة كما زعم في نصه .

هنا في رواية " حقيبة الرسول " يقف الأب بنفس الاسم إبراهيم في موازة مع سيدنا إبراهيم في الاحتكام للحُلم ، مع الفارق أنه في حالة سيدنا إبراهيم كان رؤيا من الله أما في حالة بطل الرواية ، فقد جاء في صورة كابوسٍ مُرْعِبٍ ، لكن في الحالتين كان الامتثال مع فارق المُمْتَثِّل له ففي الحالة الأولي : امتثالٌ لأمرٍ إلهي ، لذا عندما صَدَّقَ سيدنا إبراهيم الرؤيا وامتثل لها جاءت الفدية / البشارة ، أما في حالة البطل هنا فراح يرتقب البشارة دون أن تأتي ولما همّ بالفعل دون إذن هُيئ له أن فديته لم تُقبل . فَرفْضُ الفدية جاء كنوعٍ من الإشارة غير العلنية ، بأن وجود مثل هذه السلطة الأبوية العليا ( لاحظ دلالة عدم تحديد مصدرها ) هي نوع من الأوهام التي تعشش في بُني العقل في مثل هذه البيئات ، وأن الأفراد في مثل هذه البيئات تنساق دون وعي لمثل هذه الأوهام وتصدقها . صورة الكابوس هي رمز لتقاليد بالية مماثلة مثل : الاحتكام للشعوذة والدجل والخرافات ....إلخ وغيرها من أنساق الثقافة التحتية التي تكرّست وتكلَّست وأضحت من المسلمات التي لا تقبل النقاش ، وإن كانت صورة الكابوس أكثرها رقيًا ، حيث هي نِتاج لبنية وعي ، بعكس الأخري التي هي مفروضه من آخرين ، أضحوا بمثابة أوصياء على أفعالنا ، ومن هنا فالإشارة واضحة بأن الفدية لم تُقْبَلْ وأنّ شيئًا مما هُدِّد به الأب ( ذبح الابن ) لم يحدث ، فالابن عاش وتزوج ( من مريم )، وسار على نفس خُطي الأب في العمل مدرسًا، وصار فاعلاً منتجًا له دور حيوي في المجمتع لا عالة :" أراني الآن يتحلق الأولاد من حولي في فناء واسع وكبير ومُظلل بأوراق أشجار كثيفة زرعتها بيدي، وأرى مريم تُقبل نحونا من بعيد، في يدها ورقة بيضاء، ناصع بياضها، وقلم بكر لم يَخُطُّ شيئاً من قبل، وحين تنضم إلينا نبدأ جميعاً في مراجعة الدرس."( الرواية ص: 133).

*****


ليست قصة سيدنا إبراهيم أو الذبيح هي التناص الديني الوحيد في الرواية ، حيث يتجاور معها التناص مع حادثة الرسول محمد يوم نزول الوحي ، وهرولته للسيدة خديجة طالبًا أن تدثره ، هنا أيضًا يتكرر الأمر مع الأب الذي رأي الشبح الأسود ينتظره في الطريق أثناء عودته للبيت ، وراح يسخر منه ، فتوجس الأب خيفة منه فأسرع إلى البيت مهرولاً ، وما إن وجد ابنه يلعب في صحن الدار ، حتى شعر برجفة وطلب من زوجته أن تدثره بالغطاء ، فهو يشعر بالبرد رغم أن الجو حارٌ خانق ، فالتناص هنا مع الفارق بين الشخصيتن ليس غرضه التمثُّل بقدر ما غرضه إظهار حنو الزوجة وتعاطفها مع الزوج رغم عدم قدرتها على فهم تصرفه ، لكن في النهاية كلتيهما احتوت الزوج في أزمته ، وكانتا سندًا وعونًا حتى عبرها بسلام ، فآلت في الحالتين إلى تعظيم دور المرأة وإجلالها . وأيضًا قصة موت الأب ثم حياته مرة ثانية ، وبعدها صعوده إلى السماء، تتوازي مع قصة المسيح . وإن كانت قصة الموت ثم الحياة مرة ثانية تتوازي مع قصة إيزيس و أوزوريس في التراث الفرعوني ، مع استبدال لمسة يد إسماعيل / الابن بقبلة إيزيس التي نهض على إثرها إوزوريس ، فالبعث مرة ثانية لكليهما كان بسبب الأمل والتشبث به لأقصي حدٍّ ممكن ، وهي دعوة في مجملها تتطابق مع أحد المعاني السامية التي ترمي إليها الرواية ، وإن كانت بإشارات غير صريحة لكنها موجودة ، وهذا هو المهم .

ومثلما كان التناص مع حوادث الشخصيات ، يستكمل التناص سياقه عبر استعارة خوارقها أيضًا ، فمثلما كانت معجزة إبراهيم عليه السلام هي النجاة من النار ، بعد ما صارت " بردًا وسلامًا " ، كانت معحزة الأب المتوازي مع إبراهيم عندما همّ أحد أقارب بنت الشيخ موسي للثأر لشرفه الذي لوّثه ، وتربّص به أثناء عودته ليلاً ، وبالفعل كان كل شيء مهيأ للقتل إلا أن المعجزة حدثت ، فيبقي كلاهما القاتل و الضحية في وضعهما كبرهانٍ على صِدْقِ براءة الشيخ من تهمة وطأِ عَرض بنت الشيخ موسي، ليس للأب فقط بل للناس جميعًا " لقد بدا الأمر في مخيلتهم وكأنه آية سماوية جديدة، أو معجزة لنبي من الزمن القديم، وكان الاثنان علي حالهما منذ الليل، أبوك يجلس في هدوء علي جانب الطريق الأيمن إلي جوار الحائط مُلطخاً بروث البهائم وينظر إلي غور بعيد لا يراه أحد غيره، وقريب الشيخ موسي علي الجانب الغربي من ذات الطريق مصوبًا بندقيته باتجاه أبيكَ، يحاول الضغط بكل قوته علي الزناد، والزناد لا يتحرك تحت كل أصابعه، وقد مالتْ أعواد الذرة ـ التي كانت تدرايه في الليل ـ من حوله كأنما لتكشفه في عيون الناس."( الرواية : ص 58 ). وتتكرر المعجزة مرة أخري عندما يعود من الجبل وقد أصابه المرض ، ويزداد المرض عليه حتى يأتي طبيب الوحدة ، ويعلن وفاته، وبينما يُجَهَّزُ للدفن على المغَسلة فإذا به يتحرك ، يبقي علي قيد الحياة أربعين يوماً ثم يموت من جديد ( لا حظ دلالة الأربعين يومًا في التراث الديني ) .

جاء هذا التناص الديني أو الأدبي ( قصة حب مريم وإسماعيل ، وجنون إسماعيل ، ومرض مريم تتوازي مع قصة مجنون ليلي في التراث الأدبي ، حتى إن إسماعيل استعار من المجنون إمكانية إحداث الفضيحة فرضخ الأب لزواجهما ، وبعدها شُفيت مريم بعد أن أوشكت أو كادت أن تموت ، وهو مالم يحدث في الحكاية الأصلية ) أو الشعبي ( حكاية مقتل بنت الشيخ موسي تتوازي مع حكاية شفيقة ومتولي في الأدبيات الشعبية ، لكن بإعادة صياغة تنبئ في هذه الحالة عن الاستسلام والرضوخ للمصير ، عكس ما حدث في القصة الأصلية حيث الفعل الشائن حدث بعيدًا عن القرية ، في مكان آخر والأخ سعى لقتلها بعد مطاردتها، ثم – هنا - الرفض القاطع من قبل من وُجِّه له الاتهام بالإقرار والرضوخ لقانون أنساق القيم /أعراف الجماعة ، وأيضًا الشيئ الإيجابي – هنا - هو إعلان الفتاة عن الفاعل حتى لوكان كذبًا ، وهو مالم يكن يحدث من قبل ، " قارن بين موقف بنت الشيخ موسي ، وفهيمة بنت بخيت البشاري في "الطوق والإسورة " ليحيي الطاهر عبد الله ") ،جاء هذا التناص ؛ ليعكس من جانب آخر سعي الكاتب لخلخلة الأنساق الثقافية والتي أضحت مُسَلَّمَات يجبُّ التسليم بها والإذعان إليها ، وهذا ما يرفضه الكاتب ، ويسعي لجعل شخصياته تنحو نحوه .

(3)


ليس نحن مع حكاية بسيطة يمكن أن نلم بخيوطها من أول وهلة من القراءة ، بل نحن بإزاء نصٍ من النصوص الكتابية في المقام الأول فالحكاية الإطار حكاية متداخلة بين الواقعي واليومي / المعيشي ، وبين الأسطورة والحُلم ،وبين الديني والثقافي ،وبين التاريخي والراهن . حكاية مزيج من عناصر عدة . الحكاية الأساسية هي حكاية هذا الأب المثقل بهزائم والمترع بأحزان لا دخل له فيها حتى المعارك التي دخلها لم يكن يختارها ، بدءًا من المعركة الفاصلة التي ترتبت عليها كل هزائمه وانتكاساته ، نكسة 67، والتي دخلها مدفوعًا بامتثال لسُلطة عُليا، كانت أقرب لسلطة الأب ، ألم يكن عبد الناصر قريبًا منهم؟! في ميدان المعركة
" كان خطابه السياسي زاعقاً وواثقاً، وكنا نزعق معه وتمتلئ نفوسنا ثقة واطمئناناً كلما سمعنا صوته يأتينا عبر سماعة الميكروفون الكبيرة المثبتة في قمة صارٍ عالٍ نُصِبَ وسط أرض الكتيبة، والتي يُسَلِطَها القائد أمام جهاز الراديو بمكتبه، فينتشر صوت عبد الناصر يملأ الصحراء من حولنا، لم نكن نهتز وحدنا لكلامه، أو تتزلزل أجسادنا فقط بعدما تمتلئ بالقشعريرة وتهتف بالنداء، بل اهتزت أيضاً رمال الصحراء من حولنا، والجبال علي البُعد منا سمعنا صوت تململها فوق سطح الأرض كالرعد في قاع السماء،.... "( الرواية ص: 97) هكذا تعبأت نفسه هو والجنود بما قاله عبد الناصر، لكن كانت الخديعة التي راح يبحث عن تفسير لها " فهل خدعنا إلاهنا، أم قَصُرَتْ بصيرتنا عن إدراك حكمته؟!" فقد وجد نفسه/هم دون الأب دون الإله ، عَرايا في صحراء تصطلي بنيران العدو من أعلى ومن أسفل ، لم يكن أمامه / أمامهم ، سوي الاعتماد على أنفسهم بعدما تخلّى الجميع عنهم فقد ضاعت نداءاتهم " واناصراه " سُدي ابتلعتها الصحراء ، تساقط الجنود واحدًا واحدًا تتري ، في أتون حرب غير متكافئة لم يُعَدُّوا لها بل أُلْقُوا فيها مشحونيين بكلمات جوفاء ، عاد وما تمني أن يعود ، عاد بعد أن أصابته شظية في مؤخرة ظهره " شخصًا آخر غريباً وصامتاً ومنكسراً وحزيناً وأعرجَ ومحباً للعزلة..." ( الرواية ص:43) كان هذا هو التحوّل الأول في شخصية الأب ، لم تكن الإصابة جسمانية فقط بل تجاوزتها إلي معنوية وما أقساها !! ، فأولاً سقط الإله ، سقط الأب بعدما أفقده ذاته ، فلجأ كَحَلٍّ بديل بعدما كَثَُرتْ عليه الأسئلة التي تدين عبد الناصر وتحاكمه: لماذا فعل ما فعل ؟ كيف سمح لنفسه أن يصدقه ؟ لكن شِرَاك عبد الناصر لم تنتهِ بالهزيمة فقط ، كانت الخديعة الكبري يوم أن مات ، هكذا دخل البطل في مرحلة جديدة من العزلة والانكسار فلقد – كما يقول - :" خدعني للمرة الأخيرة ومات، تركني وحيداً بروح مشروخة وممتهنة، ومؤخرة مكشوفة ومفضوحة، وبرجل عرجاء وغير قادرة علي السير في ثبات مرة ثانية " هكذا كان موت عبد الناصر الشرخ الأكبر في حياته " فمن يبقي له بعد موته "على حد قوله ، هكذا أسلم نفسه المشروخة من مرارة الهزيمة ومرارة العرج والعجز
( الذي يكتشفه في مرحلة لاحقة ) ثم مرارة الَفِقْدِ ، للاستسلام ، وأيُّ استسلامٍ أنكي من الاسستلام !!" لشيطان العُزلة ، والوقوع في بئر الصمت ابتغاء تفتيت الروح والجسد، عِقاباً للروح التي قَبِلتْ بالخديعة، وللجسد الذي لم يقاوم الرواية ص: 103" ، هَامَ في طرقات القرية ، تحاشاه الجميع ، ومن وقتها عَرِفَ طريقه للجبل ، وبين رِحلة الذهاب والإياب كانت الهزيمة الثالثة / آسفة الأثافي ، عرفها عند النهر " بنت الشيخ موسي " ، هي التي اقتحمت حياته وفرضت نفسها عليه ، ولمَّا كانت النفس خاويةً مازالتْ تتجرّع مرارة السؤال المُرِّ دون إجابة : ما الذي فعله بنا عبد الناصر ؟ ظل يبحث عن إجابة لكن هيهات !!، ومن ثم كان الطريق الثاني مُهيَّأً لأن يبحث عن إمرأةٍ حقيقيةٍ ، لم يكن غرضه العبث مع النساء بل يبحث عن نفسه فيهن، عن التي تقدر علي إخراجه وإنقاذه مما ألمّ به ، فقد صار عاجزًا حتى عن ممارسة العادة السرية ، كما فشل صديقه إسماعيل في إخراجه مما هو فيه ، وقد كانت إلى جانب النهر ".. لم تكن الضحكة تفارق وجهها بل كان صداها يدوي في الفضاء قوياً وحراً، حتى أحسسته يخترق السياج الصلب من حولي وينفذ إلي عمق الروح العطشانة، كلما رأيتها عصر كل يوم أحسستُ بالارتواء يملأ روحي وكان له طعم العسل..."( الرواية ص:46)سعت إليه ، لبّى ندائها ، واتفقا على موعد عند الساقية بين أعواد الذرة ، لكن الفعل لم يتحقق، ظنَّا أولاً بسبب الذئب والرجال الذين يطاردونه.جدّدا الميعاد ، لكنه هو الذي اختار الميعاد الثاني ، مكانه الأثير " سن الجبل " وبالفعل صعدا ، كل شيء مُعَدّ تمامَا: المكان هادئ ،والرغبة تَنُضُّ عنها ثيابها ... وما أن هَامَ بها حتى تَصبَّب عَرقًا دون أن يقومَ مَارِدَ الرغبة في داخله ، هنا فقط تأكدَّت ظنونه السابقة بعجزه ، هذا العجز الذي أصابه به الأب / عبد الناصر ، فقد جاءت وتأكدت انتكاسته بين فرجي إمرأة ، تلك التي طلبها ونشدها ؛ لأن تُخلِّصه مما هو فيه ، لكنها قادته إلى طريق آخر مُهْلكٍ ، بدأ منذ أن أَضْمرت الانتقام منذ أن قالت " فليكن الأمر هكذا " فدبَّرت للذي قهرها بعجزه ، فما أن ظَهَرَ حَمْلِهَا السفاح ، لم تتوانَ في أنْ تُعْلنَ أنَّه صَاحِبُ ثمرةِ الخطيئة . بهذا الإدعاء قادته للجحيم ، أرادوا أن يدخلوه الشَرك لكنّه أبَّي ورفض أن يعترف بثمرة غيره، لينجو من الموت ، فكان الموات الثاني له ، دبرَّوا لقتله لكنه نجى بمعجزة ، الكل تحاشاه دون أن يدافع عن نفسه ، ماذا يقول : أنا ضحية عبد الناصر ؟ أصابنى الأب بالعوار والعجز ؟ أيقول أنا عنيني[.] ويفضح نفسه ؟ فضَّل الصمت وزاد من عزلته وصعوده للجبل علَّ البشارة تأتيه منه ، وبالفعل جاءت البشارة في صورة صفية الفتاة الفقيرة من أبوين أجيرين ، كانت غير مُصدقة لما يقال . لم تصدق أن يكون هذا الذي يستحي من أن ينظر لوجوه النساء عند عبوره النهر بِمْثلِ إدعاء بنت الشيخ موسي التي انتصف منها نسق القيم والأعراف لتخطيها له ، فوجدوها بعد صلاة الفجر مقطوعة الرأس ، كصك براءة من العار الذي يلحق العائلة بفعلها الشائن ، حاولت صفية التقرب إليه ، دفعتها عوامل كثيرة معظمها يؤكد ما استشري من قيم النفعية التي سادت القرية بعدما طغت المدنية عليها ، ولحقتها شرورها ، كلاهما وجد في الآخر ضالته . هي وجدت فيه المنقذُ / المُخَلِّصَ الذي يُخَلِّصُهَا من الفقر ، وهو وجد فيها البشارة / التي ينتظرها ، ليتخلص من عزلته وكذلك البرهان الذي يؤكد براءاته من التهمة التي أُلْصقت به وهو منها براء ، فكانت له بمثابة هاجر التي أنقذت سيدنا إبراهيم من العقم ، لكن تَأخُّر الإنجاب أَوْقعها في مأزقٍ من جانب أهله ، ووضعه في اختبار أمامها ( وهي التي ضحت من أجله وتقبلته بخطيئته التي لم يغفرها له حتى أهله فرفضوا أن يزوجوه من بناتهم ) ، إلا أنه رفض أن يطلقها أو يستبدلها بأخري امتثالا لنصائح أهله، الذين يرون أن هذا الزواج من البداية غير متكافئ ( لاحظ قانون النسب والأعراق ظهر الآن !! ، فالزواج في حد ذاته اختراق لهذا النسق القيمي ) لكنه أبي ، وهذا الرفض يأتي كنوعٍ من المقاومة للنظام الأبوي المتمثِّل في العشيرة /الجماعة ، وما يفرضه من وصايا ( ألا يكفي ما حدث من عبد الناصر وكان ما كان ؟؟!). أما هي فصبرت رغم تجرعها على مدار سنين موحلة كلام مقيت ،وما أجلها تيمة الصبر التي ليس لها مثيل بالنسبة للمرأة في الصعيد وهو ما عكسه المؤلف هنا ، فطبيعة المرأة تختلف عن أي بيئة أخري خاصة في تَحَمُّلِهَا الصبر وأيّ صَبرٍ بعد الصبر على الإنجاب ،الذي يمثل مشكلة كبري للرجال ، لكن هنا كما قلنا يسعي المؤلف لخلخلة النسق الثقافي السائد واستبداله بمواضعات بديلة تتواءم مع المتغيرات التي طرأت على المكان ومن ضمنها القرية .وليس هذا هو الصبر الوحيد فقد صبرت – أيضًا - على عزلته في الجبل ، وكما صبر جسدها على الحنيين لجسده . وجاء الحمل بعد أن قَدِمَ ذات ليلة عليها " من الخارج بمزاج رجل حقيقي " وما أن دعاها للخروج إلى الجبل ( تتوازي مع دعوة سيدنا إبراهيم للسيدة هاجر بالخروج لمكة ) فلبتُ الدعاء [ كلاهما امتثلا للأمر وكانت النتيجة الأولي عَمُرَ البيت الحرام ، وفي الثانية كان الحمل ] وقد جاء الابن بعد تجربة قاسية وممتعة إلى حد كبير بعدها بتسعة شهور مكتملة، وسمّاه على اسم صديقه إسماعيل العبراني الذي صدّقه منذ البداية حتى المنتهي ، جاء الحمل في الصحراء ؛ ليشير في دلالة قوية إلى حالة العقم والبوار التي أصابت القرية بعدما استشري فيها ما اسشتري من قيم نفعية ( لاحظ موقف بنت الشيخ موسي ومحاولتها إرغامه على الزواج بنصب الشَرك له ، وأيضا موقف أهله الأثرياء الذين رفضوا أن يزوجوه من بناتهم بعد الفضيحة ، وكذلك موقف أهل مريم الذين رفضوا أن يزوجوه لإسماعيل لأنها رفضت ابن عمها ........) واستئصال لقيم القرية الجميلة ، وإحلال قيم غير أصيلة . فالعقم الذي أصاب الزوجة ، هو نتيجة لما حلّ في القرية من تَغَيُّرٍ لنسقها فصارت فعْلاً مُميتًا بعكس الصحراء ، التي هي وَاحةُ الصوفيين وجنَّةُ الأنبياء .

جاء الغلام قرة العين الذي يتوازي مع الذبيح في التراث الديني الإسلامي ، وجاء معه التحول الثالث في شخصية الأب ، حيث الكابوس المفزع الذي أخذ يلازمه في منامه ويتكرر يومًا بعد يوم ، وفي هذه المحنة كانت الزوجة أيضًا صابرة ، فقد اعتزلها وصعد إلى الجبل وطالت مدة غيبته في انتظار البشارة ، هنا يتداخل الواقعي مع الأسطوري ،في نسيج محكم البناء وكأنهما شييء واحد ، فالكابوس الذي يأتي تارة في المنام وتارة يتجسد في صورة شبح يخرج له ويعطيه سكينًا ويأمره أن يقتل ابنه فهو " منذور للموت "، كيف يفعل هذا وهذا الابن هو الذي أنقذ روحه ، جَبَرَ كَسْرَها ولَضَمَ شروخها ، ويأتيه في المنام هذا الشبح ويدَّعي أنه رسول ويجب عليه أن يَمْتِثِّلَ ولا يَعْصَى الأمر ، لكنَّ الأبَ يرفض ويقول إن " ابنه مني " ولن ينفذ الأمر، في تحدٍّ واضح لهذه السلطة المبهمة ، رغم إنذارها ستحل اللعنة ، هنا الأب برفضه يكسر النسق الأبوي السائد ، نسق الوصايه ، تَمَرُّد على كل أشكال الوصايا دون تبرير والتي بدأت بالتمرد على عبد الناصر بعد النكسة الذي تركهم عرايا في مواجهة نيران العدو ، هنا تحريض للتمرد على هذه الأبوية أيا كانت فرد أو جماعة أو سلطة ، وهو ما يتكرر بعد ذلك مع مريم التي تتمرد عليها فترفض الزواج من ابن عمها ، وقبلها تأتي إليه وتقول له أنها تريد أن تتزوج بمن يحبها ، ويقع قول مريم على أهلها موقع الصاعقة ، فتبدأ الوصايا الذكورية، بحبسها وتركها وحيدةً ، لكنها تخترق هذا الحصار المفروض الذي أشبه بحصار على عقلها ، وتجعل من نافذتها طريقًا للنجاة ، وبالفعل تخرج ، ويكون الجبل هو السبيل لمن تُحِبُّ ، حيث تتعقب إسماعيل أثناء رحلة صعوده إلى الجبل بالزاد إلي أبيه ، وهناك يلتقيها تختبئ في الكهف أشبه بحورية ، ويُصرُّ على الزواج بها ، لكن يأتي الرفض من أبيه بحجج واهية ، بأن يرجئ الزواج حتى يتم تعيينه ، وهنا لا يمتثل الابن لأبيه كما في السياق القرآني " أفعل يا أبتِ ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين " ، الابن يرفض الوصايا ، فهي ليست من وحي أي ليست مقدسة ، ويذهب إلى عمه إسماعيل الذي يرفض أولاً، ثم يذهبان معًا بعد أن يُحَدَّدَ لهما ميعاد . وهناك تأتي الوصايا الأبوية من قِبل أخوتها الذين يرفضون ، فتعلم مريم برفضهم فتدخل في مرض مميت ، على الجانب الآخر يمرض الأب ويقف الابن في حيرة من أمره ماذا يفعل بعدما جاءته الأنباء من صديقتها سعاد بأنها عافت الزاد والزواد وتسستلم للموت ، هنا يقف الابن في حالة من الصراع النفسي : أإلي أيهما يسعي ؟! أإلي مريم التي سعت إليه ؟ أم إلي أبيه ويمتثل لأمره ؟!هكذا يُلْقي بالأسئلة على نفسه علَّهُ يَظْفَرُ بإجابة " ماذا أستطيع أن أفعل لك يا مريم وبيني وبينكِ جبل القبيلة العالي؟! ذلك الجبل الممتدة أطرافه تريد مطاولة السماء، فيما هو راسخ في الأرض وموغل في القِدَم، جذوره امتدتْ من قلب صحراء البدو وانطلقت تشق رمال البوادي لتعتلي طين الوديان وترسخ فوق رءوسنا وكواهلنا أطواداً عظيمة وجاثمة، صخورها تقاليد لا تُقَدُّ، ورمالها عادات لا يجب اختراقها، فكيف السبيل في الوصول إليكِ؟ لو أمتلك فقط مجرد الوصول إليك،...." ( الرواية ص:88) . هنا يظهر الاستسلام الوحيد في النص ( الذي لم نجد له مبررًا أو حتى مَهَّدَ له المؤلف!! ) فجميع الشخصيات لم تسسلمْ مطلقًا الكل قاوم ، فالأب قاوم الهزيمة ربما بعوامل مساعدة مثل بنت الشيخ موسي كما توَّهم ، أو بالجبل أو من خلال زوجته صفية ثم بابنه إسماعيل . حتى مريم نفسها قاومتْ وصَمَدتْ لكنها فجأة تراخت واستسلمت للموت حتى جاءت البشارة من الأب بالزواج منها وبالفعل يذهب لكن أهلها يقولون أنها مريضة فإن شُفيت فهي لك ، لكن كان هذا نوع من المماطلة ، وبالفعل يتقمص دور المجنون " قيس بن الملوح " في التراث الأدبي ويهيم إلي أهلها مرة ثالثة ولكن متوَّعِدًا ومُنْذِرًا، فإن لم يزوجوه فسوف يَهيمُ بها في القرية ، ويكون قيسًا جديدًا لكن دون أن ينشد شعرًا ، فهيامه بها في الطرقات في حد ذاته فضيحة لهم ، مع الفارق أن في السياق النصي انتهت القصة لمرادها بعكس النهاية في السياق الأدبي ( حيث ليلي العامرية ماتت دون أن تتزوج بمن تحب ).

وقد تخلل هذا أحداث أخري فالأب رَقَدَ رقدة الموت لكن حدثت المعجزة بالعودة مرة ثانية للحياة أثناء الغُسْل هل كانت يد الابن التي تعبث به من أسفل بمثابة قبلة إيزيس ، وبقي بعدها أربعين يومًا ثم مات ، بل قيل أنه صعد للسماء كمسيح جديد يتبرأ من معاصي البشر وآثامهم ربما !!، وقيلت أقوال أخري ،المهم أن الحياة دارت دورتها وغَلَّف الحياة النسيان بمظلته فدارت الدورة وعَمِلَ الابن كما أراد الأب مُدَرِّسًا ومريم بجواره .

(4)


هذه هي الحكاية التي صاغها المؤلف . حكاية متداخلة يتداخل فيها التاريخي مع الآني والأسطوري مع الحُلم والواقعي مع الخيالي ، لكن يَشدُّ هذه العناصر المتداخلة ويربطها ببعض سردا شفيف يَقْتَربُ من حدود الشعرية ، وفوق هذا وذاك إستراتيجيات كتابية ، تُقرِّب عناصر الحكاية وتمزجها معًا ، وهذا ما تَجلَّي في الاتكاء على تعدد الأصوات ، فالرواية قائمة على هذا ، حيث الشخصيات تقوم بالسرد عبر سرود يغلب عليها منولوجات ذاتية أقرب للبوح والفضفضة منها إلى السرد والحوار ، لهذا جاء الحوار مع قلته ممزوجًا في السرد ، وكأنه حوارٌ ممسردٌ ، فالجمل الحوارية مندغمة في إطار السرد ، لا منفصلة عنه. بل إن المنولوجات تأخذ إطارًا كبيرًا ، عبر استرجاعات تعود بنا وبالشخصيات إلى زمن الحكاية الأصلية وقت حدوثها ، فالمؤلف يترك الشخصية في منولوج طويل ( راجع في هذا المنولوج الخاص بمريم وكيفية حبها لإسماعيل ، وبالمثل استرجاعات الأب )

كما لجأ في نهاية الرواية لاستكمال ثغرات النص المفتوحة إلى إستراتيجيات كتابية مغايرة للنمط الروائي السائد ، تتمثل في وضع اليوميات التي كتبها الأب وكأنها جزءٌ لا ينفصل عن المتن ؛ ليقدم تبريرًا على ما فعل بطل الرواية ، فهناك أحداثٌ لم يكن معه أحد فيها ولو جاء السرد على لسان الابن لأصابت الرواية بسقطة ، لكن بفنية رائعة قام المؤلف بتزييل المتن بهذه اليوميات . كما أن الهوامش التي ذيَّل بها بعض الفصول كإشارة إلى النسب للأب والأم ثم الابن ، جاءت كرابط يغوص بالأبطال إلى جذور تاريخية ، ليؤكد عراقة النسب وأصالته ، وفي ذات الوقت تنبئ عن تأصل هذه الأنساق وتجذُّرها، التي يسعي النص إلى خلخلتها ، لذا تحتاج إلى مقاومة وثبات أثناء عمليات الخلخلة والاستبدال ، كما إن الكتابة بهذا الشكل ، تُشْبه لحدٍّ بعيد كتابة الحوليات وكُتب الطبقات ، لتعكسَ أن مثل هذه الكتابة من الممكن أن تُسْتبدل بنمطٍ كتابي مغاير مع الاحتفاظ بالمتن عبر شكل الرواية ، وهو ما يؤكد سعي الكاتب إلى خلخلة الأنساق واستبدالها بأنساق بديلة / مغايرة تتواءم مع حاجيات العصر ومتطلباته .

وبالمثل ينهض السرد في هذه الرواية ( حقيبة الرسول ) إلى هدم واختراق أنساق معرفية موروثة، سعت معظم الخطابات ( راجع الروايات التي اتخذت من بيئة الصعيد فضاءً نصيًا ، ويكفي الوقوف على أعمال الراحل محمد مستجاب ، لتجد احتفاءًا بالطوباوية الشعبية ، والأيديولوجيا غير الرسمية ) من قبل إلى تكريسها والاحتفاء بها باعتبارها تيمات مميزة ، ومن هنا كانت مهمة السرد في جميع مواضعه الاتكاء على الأنساق البديلة ، ووضعها في مواجهة مع هذه الأنساق المعرفية الموروثة ، ومن جانب آخر لا يكتفي باختراق الأنساق المعرفية الموروثة وإنما يقوم أيضًا بهدم كل ما يتوازي مع هذه الأنساق باعتباره مُقَدَّسًا لا يجبُّ اختراقه أو الاقتراب منه ، حتى لا تكون اللعنة مثلما حدث في قصة الكابوس والذبح .
السارد هنا لم ينحاز لمثل هذا الفعل باعتباره سُلطة عُليا لا يجوز رفض إملاءاتها ، بل على العكس جاء الرفض القطعي والصارم لن أنفذ ، حتي " وإن كنتَ رسولاً، فلن أسمع لقولك ولن أستلم رسالتك "، وهو ما يؤكد ميل المؤلف إلى هدم كل هذه الأوهام في ثقافتنا التي تجعلنا نُقَدِّسُ المدنس ، ونهيل عليه أمَارات التبجيل ، وهو ما تم تفعيله بصورة أكثر من خلال هدم صورة عبد الناصر ، صورة الإله الذي يجب أن يُطاع دون مناقشة ، فكانت الهزيمة التي كشفت سوءته وقدّمته على أنه بشرٌ يُصِيبُ ويخطئ ، لهذا كان الأب هو الذي أدان عبد الناصر بعد الهزيمة بتساؤلاته المتعددة من قبيل " ما الذي فعله بنا عبد الناصر؟!" ، هو نفسه الذي بكاه يوم مات ،وعاد إلي سيرته الأولي في العزلة وقال : تركني وحيداً بروح مشروخة وممتهنة، ومؤخرة مكشوفة ومفضوحة، وبرجل عرجاء وغير قادرة علي السير في ثبات مرة ثانية. فما الذي يمكن أن يبقي لي من بعد؟! " ليس هذا تناقضًا ، بل على العكس هو رجوع إلى الحقيقة / الوعي المجرد من الإيديولوجية السلطوية ( أيديولوجية يوليو التي أفرزتها خطابات ثورية ، وإعلام تعبوي ....) فما أن نُزِعَتْ الهالة القدسية صار بشرًا لها أفعاله التي يُقَدَّرُ من أجلها ، وكذلك أخطاؤه التي يُحاكم للسبب نفسه ؛ لهذا كان الحزن مريًرا يوم وفاته من فئات الشعب ومن ضمنهم البطل المترع بهزائمه ، الحزن على عبد الناصر الإنسان ، لا عبد الناصر السلطوي صاحب الأوامر ثم النكسات .

ويعمد السرد في أحيانٍ كثيرةٍ ، إلى تفعيل النسق المضاد من خلال إظهار فاعليتة فإذا كان المؤلف يسعي إلى خلخلة وهدم الأنساق الموروثة البالية ، فإنه من خلال السرد يعمد إلى تأكيد البدائل كخطوة لتأكيد مصداقيتها ، لاحظ رفض مريم الزواج من ابن عمها تكلَّل بالزواج بمن أرادت ، فهي كانت ترغب في أن تتزوج ممن يختارها لا من يُفْرض عليها ، ويحبها لكونها مريم أي لذاتها ، وهذا ما كان ، وبالمثل عندما رفض الأب الامتثال للشبح في الكابوس بأن يذبح ابنه ، وإعلانه أن هذا بداية اللعنة لكن شيئا من هذا لم يتحقق مع اختيار النسق البديل/ الرفض .

ويتكئ السرد في مواضع كثيرة من النص على الوصف ، كعنصر تقني يعكس الداخل/ أعماق النفس المشروخة، كما في حالة الأب إبراهيم ( راجع الوصف الخاص بلحظة الهزيمة من خلال الاسترجاع الطويل لما حدث أثناء المعركة ) ، أو المنهارة كما في حالة مريم" كيف انسحب الدم من جسدها وجري يتوارى داخل أوعيته حتى اصْفَرَّ لونها ومشت خطوات واسعة نحو الذبول" ( الرواية ص: 37) ، أو الشبقة كما في حالة بنت الشيخ موسي ، لاحظ الوصف "...كنت أحاول الوقوع إلي جنبها وهي تقبض علي عنقي بيد، وعلي كفي بيدها الأخرى تأخذها إلي وسطها، هناك عند منبت الفخذين حيث مكانها الخاص، تفركها فيه وتتوسل وتسقط دموعها غزيرة وممتزجة بكثافة العرق المتراكم بين الفخذين.

ـ ليكن الأمر هكذا." (الرواية ص39 ). أو وصف المكان المهيمن كما تمثّل في وصف الجبل لاحظ " يبدو جليلاً يقف في حِدَّةٍ وشموخ، وشاملاً يغطي كل الدنيا في وجهينا، وينتهي بِسِنِّ رفيعٍ وحَادٍ يمتد من الأفق إلي الأفق، ويحتك بجسد السماء كأنما ليقطع منه، ومن داخل المعدية إذ توغل بنا نحوه كان سن الجبل يزداد إيغالاً في جسد السماء" ( الرواية ص:3) بل يمتزج مع الوصف البعد الأسطورى وهو ما أضفي على الجبل مهابةً وخشوعًا، وفي ذات الوقت تصديقًا لما يشهده من أفعال مثل صلوات الأب وتراتيله التي تمتزج ببعدٍ صوفي وأيضًا أسطوري ، فالكل لا يفهم ما يقول الأب في صلاته . وقد تجلّت الأسطورة أيضًا في وصف الفدية( ذبح الكبش ) وعدم سيلان الدم على الرمال ، ثم في حالة صعود الأب بعد وفاته

ويتبني السرد طرح الأسئلة كنسق يعيد الوعي إلي سياقه الثقافي كإجراء احترازي من الوقوع في النسق الإيديولوجي الذي يفرضه المكان أو الجماعة التي تنتمي إليه ، وفي ذات الوقت كإستراتيجية بديلة ومغايرة للكشف عن الحالة الداخلية المشحونة بانفعالات بعضها مزيج من الغضب والتمرد، لما لحق هذه الشخصيات من انتكاسات . أسئلة متلاحقة تَطول الجميع لا تقف عند سقفٍ معين ، بدءًا من عبد الناصر وانتهاءً بالابن للأب ، أسئلة تحوي معني التمرد وفي بعض الأحيان الإدانة ، فهي أشبة بمحاكمة خاصة الأسئلة التي قالها الأب عَقِبَ الهزيمة متوجهًا بها إلي الزعيم عبد الناصر مثل : ماذا فعل بنا عبد الناصر ؟، "مَنْ قال أن السماء تمطر ماءً فقط ..." ، أو " كيف سمحتُ لأذنيّ أن تسمعا صوت عبد الناصر مرة ثانية؟! أو "كيف سمحت لنفسي أن أصدقه مرة ثانية" أومثل " كيف تركنا فريسة للعراء يأكلنا الجوع، والخوف، والشمس، وقِلة الحيلة، وغياب اللحظة، وتضارب الأوامر". وغيرها من الأسئلة التي تهدف فيما تهدف إليه إلى إسقاط قناع الألوهية الذي ألبسته الأيديولوجيا اليوليوية على صورة الرجل، بفضل أجهزتها السلطوية وألتها الإعلامية ، هنا يأتي طرح الأسئلة - حتى ولو كان على الذات فقط - كنوعٍ من التحرّر من هذه التبعية بعدما حاقها ما حاق من ضرر . كما تكشف من جانب آخر ما يُمثِّله عبد الناصر في وجدان الجماعة الشعبية ، بعد أن تحرّرت من التبعية لأيديولوجيته ، من حب لصفته الإنسانية ، لهذا جاءت الأسئلة مشروعة يوم مات مثل " فما الذي يمكن أن يبقي لي من بعد؟! "

وقد تأتي الأسئلة كنوع من البحث عن الذات خاصة بعد النكسة مثل سؤال الأب في المستشفي :"أين أنا؟! ، هو بحث عن الهوية المفقودة والتي تناثرت أشلاءها على رمال سيناء بعد الخيبة ، حتى أن الأب عندما ينظر إلى وجهه في المرآة يستنكر صورته فيقول متساءلاً :
" مَنْ أنت يا الذي تلبس وجهي؟!"

قِلَةُ من الأسئلة هي التي تعكس صورة العجز مثل تساؤلات الابن عن قلة حيلته وعجزه عن فعل شيء لمريم : "فكيف السبيل في الوصول إليكِ؟ " أو " ماذا أستطيع أن أفعل لك يا مريم وبيني وبينكِ جبل القبيلة العالي؟! أو " مثل أسئلة الأب بعد الهزيمة مثل " ماذا كنتُ أستطيع أن أفعل؟!"، تمهيدًا للحالة التي سوف يدخلها من اعتزال الناس ، أو البحث عن إمرأة تعيد له ذاته المفقودة .

(5)

تميل معظم الشخصيات داخل العمل لاختراق نسق القيم الفاعل ، بمعني أن ثمة شخصيات جانحة / متمردة على السياق الاجتماعي ، ولكن يأتي هذا الاختراق لما تكبدته هذه الشخصيات من خسائر معنوية كثيرة ، نتيجة للاحتكام لوصايا من يُمَثِّله أو يعد نفسه قيّمًا عليه، وقد نجح المؤلف في تحميل شخصياته كما قلنا بحمولات تُآذر الشخصية في تجاوزها نسق العرف الخانق ، فنجح إبراهيم في أن يتجاوز هزائمه المتكررة بدءًا من هزيمته في 67، وما تجرعه من ويلات بعدها ، وصولاً إلي هزيمته أمام بنت الشيخ موسي وبمعني أدق بين فخذيها ، تلك الهزيمة التي أكدّت هزائم كان يريد أن يُنْكرها ، وهي فقده رجولته من جرّاء النكسة ، ومع تمرده على هذه كان البديل أو الجبل ثم صفية التي أعادت إليه روحه ، ثم إسماعيل الذي أعاد إليه ذاته .

وبالمثل ما قامت به بنت الشيخ موسي من إعلان اسم من أنبت البذرة الحرام ، حتى لو كان اعترافها علي سبيل الانتقام لذاتها التي تعرّت بين فخذيه وخذلها أيما خذلان ، الاعتراف في حد ذاته تمرد على وضع كان سائدًا من قبل تموت البنت بوزر شريكها ، أما هو فينجو بشركه وخداعه ، هنا تبدل هذا النسق فنجد بنت الشيخ موسي تعترف ، والاعتراف في حد ذاته إهانة تلحق بعرض العائلة وتدنسه أيما تدنيس.وبالمثل مريم تقدم نموذجًا إيجابيًا للمرأة المتمردة على كل ما يكبل إراداتها ، وهذا النمط لم تحفل به الخطابات التي تناولت بيئة الصعيد بل قدمت المرأة المشوشة التابعة ، الخاضعة لتبعية الرجل ووصايته .هنا مريم تخترق هذا النسق القبلي / العشائري ، من أجل ذاتها فترفض ابن عمها لأنها لا تُحبّه ، ومع فرض الأسرة وصايا عليها وتكبيلها داخل حجرة إلا أنها تتخذ وتخلق من نافذتها عالمها الخاص ، حتى تري إسماعيل وهو يصعد للجبل ، فتصعد إليه وتقابله هناك . يمثل صعود الجبل فعلاً خاصًا وحكرًا على الرجال فقط ، لكن تخترقه المرأة حتي ولو كان من قبيل الحب ، لتكسر المُسَلَّمَات الجاهزة التي تَقْصُّرُ الجبل على المطاريد والعصابات كما صورته خطابات الصعيد من قبل ، هنا تُخْترق الصورة النمطية وتكسر تابوهاتها وتصعد المرأة إليه مرة للفعل الشائن مثلما حدث من قبل مع بنت موسي وإبراهيم من قبل ، وها هي المرة الثانية من قبل مريم لتدافع عن حبها الذي هامت به دون أن يُبالي بها من أحبته ، ومع كل هذه الإيجابية والرغبة في المقاومة من قبل مريم ، لكن ما لم أجد له تبريرًا هو استسلامها للموت في نهاية الرواية رغم كل الإصرار والتشبث بالحياة التي تريدها لا التي يريدونها لها !!

بصفة عامة قدّمت الرواية نموذجًا جديدًا للمرأة في هذه البيئة مغايرًا عما كان من قبل في كل الخطابات ، هنا المرأة فاعلة وإيجابية غير مستسلمة لاحظ مواقف صفية / بنت الشيخ موسي /مريم / سعاد ( مع التحفظ على دور سعاد البسيط والذي جاء كوسيط بين مريم وإسماعيل ، ما عدا ذلك فليس لها دور في الرواية )

الشيء الثاني الجديد في هذه الرواية وهو ما أكدَّته الشخصيات نفسها ، فرغم الاحباطات واليأس الذي مرت به الشخصيات ، لكن العجيب أن جميعها تخلت عن اليأس وراحت تنظر لبارقة الأمل حتى لو كانت بصيصًا ، فمريم ما أن سجنها إخوتها في غرفة بعد رفضها ابن عمها وأشتدوا عليها ضربًا بالسياط ،إلا أنها لم ترضخْ بل على العكس استماتت ، وإذا بها تُبَدَّلُ الفعل الوظيفي للغرفة من سجن كما أرادوها إلى خَلاصٍ وإنقاذ لها مما كانوا يريدون إجبارها عليه ، فلقد أتاحت لها النافذة التي تطل على الجبل " قدراً كبيراً من التأمل والتفكير في الخطوة القادمة، كيف يمكن أن يصير شكل الحياة من بعد؟..." ( الرواية : ص.36) , الشيء الآخر هو كسر النسق السائد بأن الرجل يتقدم للمرأة طلبًا للزواج ، فهنا سعت مريم لإسماعيل ، وقد انصرف جُلَّ تفكيرها " إلي كيفية الوصول [إليه]، كيف أقذف داخلكَ ما أحسه داخلي من مشاعر وأحاسيس " (ص:37) ، وهو نفس ما حدث من قبل من صفية فهي التي سعت إليه ، أو كما قال الأب هاجرت إليه لذا أطلق عليها هاجر.

وفي ظل هذا السياق الذي يقوم بتحويل النسق لنسق مغاير وفقًا للرغبة الداخلية القادرة على تجاوز مثل هذه الأنساق التي تُعَدُّ مُكَبِّلَةً ومُعَرَّقِلَةً ، تتحول النكسة لفعل إيجابي ، وكيف لا وهي التي أعطته صك البراءة من فعل الزنا الذي رمته به بنت الشيخ موسي ، وفي ظل هذا الإقرار منه لم يجد من يصدقه ، فكل النساء تخشاه ولأول مرة تصبح النكسة فعلًا إيجابيًا ، فلولا ما حدث له فيها لكانت التهمة أُلْصِقت به على الأقل وصدقها هو الآخر ، لكن في ظل أثرها الذي تركته ، فلو كذبه الجميع يكفيه بينه وبين نفسه أنه لم يفعل ، ومن ثم كان التصميم منه بعدم الإقرار بثمرة الخطئية والزواج من بنت الشيخ موسي التي أوقعت به من أجل هذا الغرض ، فأثر النكسة هو الذي أبعدها من طريقه حتى ولو كانت ماتت بفعل تطبيق نسق القيم عليها والاحتكام لأعرافه .

دائمًا ما يكون المكان في روايات الجنوب هو البطل بامتياز ، فالمكان لا يُسْهمُ في خلق الأحداث فقط بل يُسْهمُ – أيضًا - في تشكيل الشخصيات والاحتكام لقوانينه الملزمة ، وهو ما حدث بالفعل هنا في الرواية فتطبيق حد القتل على الزانية هو احتكام للقوانيين المُشكِّلة لقاطنيه ، لكن أن يتحول المكان من أداة ِقتلٍ إلى حياة كما عهدنا في الخطابات السابقة التي تحدثت وتناولت الجبل ، هو ما يحسب لهذه الرواية ومؤلفها ، فالجبل في السياق الثقافي مكانٌ لإيواء الهاربين والمطاريد ، ومكانٌ لتجمع الحيوانات الضالة ، لكن – هنا - يتبدّل هذا النسق المعرفي بنسقٍ جديدٍ ، ربما جذوره مُمْتدَّة في التراث الديني أيًّا كان إسلاميًا أو مسيحيًا ، فالأنبياء عَرِفوا وجود الله في الجبل حيث السكون واالخشوع ( لاحظ تأملات سيدنا إبراهيم الذي يتوازي معه البطل ، وكذلك سيدنا موسي تجلَّى الله له على الجبل ...) وكذلك كان الجبل ملاذًا للرهبان والقساوسة من الإضطهاد في عصور الظلام ، فكانت الأديرة والصوامع في الجبال ، وكذلك وجد المتصوفة في الجبال مكانًا يلوذون به من ترف الدنيا وخلاعتها.

هنا يقف " محمد صالح البحر" علي هذه الحقيقة الغائبة أو المنسية ويستعيدها في بنائه الروائي ويجعل من الجبل الذي على حافة القرية شخصية ذات فاعلية فى أحداث الرواية ، بل إن شخصيات الرواية أنفسهم لجأوا للجبل في محنهم وكأن الجبل يستعيد الدور الوظيفي والمؤثر في حياة الرسل والصالحين . فإبراهيم بعد أن عاد من نكسة 67 مهزومًا وقد فَرَضَ على نفسه العُزلة ، فقَصَدَ الجبل ، فكان بمثابة الخَلاص لعذاباته التي راح يجترها من فِعْلِ الهزيمة ؟ ومَنْ كان سببًا في الهزيمة؟!. وكان الجبل سندًا له بعدما تَخلّى عنه الجميع بعد حادثة بنت الشيخ موسي. وفي الجبل أيضًا كان خَلاصه من جريرته التي لم يَبُحْ بها لأحدٍ ، لكنّه عليه تحدّث إلي صفية ، عن حكايته مع بنت الشيخ موسي ، وسرّ إصراره على أنه برئ . وعلى الجبل أيضًا جاء الحمل بعد أن تأخر بعض الشيء .

ومثلما كان الجبل ملاذًا للأب كان ملاذًا لمريم فقد كان خَلاصًا لها من عذاب السجن الذي فُرض عليها بسبب رفضها الزواج من ابن عمها ، فصعدت الجبل وهناك كان خلاصها فباحت لإسماعيل بحبها له ، فتمسَّك بها. وهو أول مكانٍ يَشْهَدُ أولَ قُبْلةٍ وأولَ لمسةٍ ليد مريم ، كما أن مريم هي التي ربطت إسماعيل بالجبل "بسلسلة حديدية أتمنى ألا [ فكاك] منها،" كما قال .

****

تبقي للغة فرادتها ، سواء باختيار ألفاظها أو في استعاراتها وتشبيهاتها ، التي جاءت في كثير من الأحيان محملة بالدلالات والمجازات ( لاحظ اللغة في وصف موقف العجز بين فخذي بنت الشيخ موسي ) مثل " أعلو وأهبط وأحسُ الرغبة تأكل جسدي كله وتغلي داخلي مثلما يغلي الماء في براد الشاي، غير أنه بدا غلياناً مراً وعاجزاً عن إنتاج بخار يقدر علي إزاحة الغطاء وقذفه بعيداً، لم يكن من شئ يقف من جسدي سوي شعري، ولم يخرج منه غير ماء العرق الذي يتصبب غزيراً رغم برودة ليل الجبل، وأنا أذوب في الدهشة لأتأكد من عجزي عن الوقوف والدخول في أي شيء من شأنه احتواء الروح الضالة، حتى بدأ جسدي يرتخي ويتمدد ويخور ....ص 54 ".مثل هذا يتكرر في كل صفحة من صفحات الرواية . وفي بعض الأحيان تتناص اللغة مع القرآن الكريم ، تناصًا ليس حرفيًا وإن كان من الممكن النظر إليه هكذا ، بل تناصًا إيقاعيًا ، حيث التناص مع فواصله وجرسه ، انظر مثلاً " أبلغ مبلغ السعي " " هاجرت إليه " وغيرها من الجمل التي تشي بعفوية اللغة وإنسيابيتها بعدما تخلَّى عن الاعتماد على التقديم والتأخير ، لاحظ اللغة في مجموعتيه القصصيتين وكذلك رواية موت وردة مقارنة باللغة هنا "عرفتُ الجبل من خلال أبي، ولم تكن معرفتي به معرفة السائح المُتَمَتِّع. كان أبي يجرني وراءه عصر كل يوم، بعدما يطوي حصير البلاستيك الصغير تحت إبطه، وفي يديّ تضع أمي زجاجة الماء وطبقاً مُغْلقاً على تمرات رطبة ومبللة من اليوم السابق. حينها يكون أبي عند باب البيت البَرَّاني، وأمي في مؤخرة الصالة، وأنا في المنتصف قريباً من أمي. وحينها أيضاً تقع تلك النظرة العميقة، المبللة بالدموع، والمتبادلة بينهما، أراها أولاً تنبعث من أبي حيث يكون في مواجهتي، نظرة آسية وآسفة كأن شيئاً لم يكن في يده، وحزينة باكية مثل نظرة موت حصل في حياة أخرى لم أَعِشْها معهما، وحين يبدأ وجه أبي في السقوط إلى أسفل كأنه ينظر الأرض، ويستدير في مواجهة الباب ليفتحه خارجاً، أستدير أنا جهة أمي لأطالعَ نفس النظرة على عينيها، لكنها مُثْقَلَة بدموع أكثر احتجزتها الجفون ومنعتْ سقوطها. كنتُ أشعرُ بها تكاد تبكي لأنها امرأة، ص 8 " على الرغم أن المقطع طويل نسبيًا ، وقد اخترته من أول الرواية ، إلا أن هذا المقطع وحده يشي بسمات اللغة وتطورها عند البحر ، ألا تلاحظ العذوبة والإنسيابية في السرد وفوق هذا البساطة في التركيب وأيضًا في الألفاظ ، ومع هذه البساطة إلا أن اللغة بصفة عامة في الرواية في نثريتها تقترب إلى درجة كبيرة أو تكون على حذاء من الشعرية في قصيدة النثر ، مع الفارق في أن كثيرًا منها يميل إلى ركاكة البناء وسطحية المجازات في الأخيرة .

****

في النهاية حملت الرواية رؤيةً مغايرة ، من خلال التمرد على النسق الثقافي ، وهو نتاج لوعي الكاتب الذي يعي مقولات علم اجتماع الأدب " بما إن النص منتج اجتماعي ، هو شاهد السياق التاريخي" الذي لحقه التطور عبر منظومة الإحلالات التي حلت علي بنية المجتمع ككل . وبهذا النسق والتشكيل الجمالي استطاعت الرواية أن تقيم علاقة صراعية بين الواقع ، أقصد الأنساق الثقافية / الموروثة التي تحتكم إليها الجماعة الشعبية المهيمنة على الواقع ، والوقوف ضد مصادر السلطة أيًّا كانت ، ليس وقوف المتعارض والتمرد بقدر ما هو وقوف الاستقلال ، وعدم الانصياع لتبعيتها .

هكذا استعادت الرواية دور الكاتب ووظيفته لا بدوره بوقًا يُكرِّسُ لأيديولوجيا مهيمنة ، بكل ما تحويه من إلغاءٍ وإقصاءٍ للعقل ، أو تابًعا مجردَ ترسٍ في عجلة السلطة ، يُكرس لصورة الزعيم الإله ومقولاته ( أيًّا كان المتوازي مع الزعيم الإله ) ، بل على العكس جاءت الكتابة والوعي بها كأداة جمالية / إستطيقية قبل أن تكون معرفية مع<>

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بكم..
أشرف بتعليقاتكم..
محبتى