الثلاثاء، 23 فبراير 2010

المبدعة التونسية ايناس العباسى.. أخيرا، أنا في شوارع القاهرة




المبدعة التونسية ايناس العباسى.. أخيرا، أنا في شوارع القاهرة



الإطلالة الأولى:
مشهد القاهرة من عل...النيل العابر للمدينة والهرم يلوح من بعيد..
كانت الساعة تقارب السابعة عند وصولي. حينها لم أكن أعلم أنه توقيت استعداد القاهرة لكرنفالها الليلي.
مثبتة شالها الحريري تضع القاهرة لمسة من عطر "اللوتس" لتسهر حد الساعات الأولى من الفجر.


* * * *

أخيرا، أنا في شوارع القاهرة أو مصر ( كما يسميها المصريون )..
بعينين نهلتا من الثقافة والسينما المصرية، ارتشفت تفاصيل الشارع المصري مقارنة بين الفكرة المُسبقة والواقع. انطلاقا من ميدان طلعت حرب مرورا بميدان التحرير ثم بتاكسي إلى مصر الجديدة. حيث كانت الشاعرة ميسون صقر تقيم في بيتها أمسية تأبين للشاعر الراحل أسامة الدناصوري مع ثلة من أصدقائه المبدعين، محتفين بصدور كتابه الأخير "كلبي الهرم، كلبي الحبيب".
في الشوارع التي كانت تنبض بالحياة، لم أشعر بالزحام المصري الشهير. بدا لي الزحام أمرا نسبيا ومتوقعا في مدينة هي عاصمة البلاد. أو ربما أنني لم ألحظ الزحام بسبب أجازة نصف العام الدراسي.
الشارع المصري متناقض بتفاصيله من الأفيشات السينمائية الجريئة ومحلات الملابس باذخة العري وصارخة الألوان إلى نسبة التدين المرتفعة، من تجاور صور المغنين الغربيين إلى كتب الفكر على نفس "بسطة" الكتب ...
يصعب أن تمشي في شوارع القاهرة دون أن تقبض عليك مكتبة أو "بسطة" للكتب...
يصعب أن تركب "المترو" و لا تجد شخصا واحدا على الأقل يقرأ، ليس هاما ماذا يُقرأ في "المترو" "كمشهد متكرر" بقدر أهمية فعل القراءة كضرورة حيوية.

* * * *

أن تزور القاهرة يعني أن تزور الأهرامات و المتحف الوطني.. و..
أن تزور القاهرة يعني أن تزور جامع الحسين والسلطان حسن وأن تسافر عينك مع النقوشات والنمنمات الإسلامية....
هو أن تغمض عينيك في رحاب المسجد حيث لا صوت إلا صوت السكينة وهمس بضعة سياح مبكرين "كانت الساعة التاسعة صباحا". أمشي حافية ممررة يدي على الحيطان، كم مر على هذا المكان من سنوات و أشخاص وحكايات؟
ليلا ذهبت لجامع الأزهر. (حتى و لو كان هذا لدقائق، مع الاكتفاء برؤيته من الخارج لأن الوقت حينها كان موعد صلاة العشاء).
مكللا بهيبة المعمار الاسلامي و هيبة التاريخ، كان الجامع عظيما في جماله الخارجي. من هناك أخذني الأصدقاء لخان الخليلي "ألتفت إليه في نظرة أخيرة واعدة نفسي بالعودة".
من يمكنه أن ينشأ على أدب نجيب محفوظ و يقاوم زيارة المقهى التي كان يجلس و يكتب فيها؟ توجهنا مباشرة إلى مقهى"الفيشاوي" حيث كان يجلس أديب نوبل. المكان مزدحم و التمكن من الحصول على طاولة هو انجاز في حد ذاته.
كان هناك الكثير من السياح في المقهى بجنسيات مختلفة. والصبي الذي باعني "جلابية"، راح يتنقل بين الطاولات عارضا البضاعة، بنفس سهولة تنقله بين اللغات عند تحدثه مع زبائن المقهى، من الاسبانية مرورا بالانجليزية الى بضع كلمات بالروسية.
أسأله كم عمره وماذا يدرس؟ يجيبني بشقاوة "حداشر و بدرس دبلوم فلاحة. تشتري شبشب؟"
بعد جلسة المقهى التي قطعها سيل لا ينتهي من الباعة، تسللنا إلى محلات خان الخليلي. رائحة الشيشة تفاح او "التفاحة " عالقة بنا.
لا فرق كبير بين روح خان الخليلي و روح المدينة العتيقة بالمدن التونسية. تُسمى عندنا أيضا " المْدينة العربي " أو "الأسواق".
في خان الخليلي تستمد البضاعة جمالها من التاريخ الفرعوني كمرتبة أولى ثم الاسلامي، في المدينة العربي بتونس العاصمة أو بالقيروان تستمد البضاعة روحها و جمالها من الموروث الاسلامي والأندلسي.
بالطبع تلتقي الثقافتان في أشياء أخرى كثيرة. مثال آخر: منذ وصولي التقطت صورة "تانيت " على أفيش إعلان مسرحي. ثم في محلات الحلي بخان الخليلي.
في الثقافة الفرعونية تسمى بـ"مفتاح الحياة". مفتاح للحياة ما بعد الموت التي كان الفراعنة يعدون لها مسبقا. أما في الحضارة القرطاجنية فـ''تانيت" هي رمز للمرأة الخصب، واهبة الحياة للبشر و للأرض بعد الجدب.
في خان الخليلي بحثت عن "الجعران". كان بالطبع متوافرا في كل المحلات وعلى كل البسطات و في أشكال و ألوان مختلفة، ولكنني كنت أبحث عن واحد بذاته. أقول للبائع أني أريد "جعرانا" كالذي وصفه الروائي أمين معلوف في روايته. يجيبني بسرعة "آه آه أنا أعرفها...."
في ما بعد أضحك مع الأصدقاء متسائلة ترى لو قلت له أريد جعرانا كالذي وصفه كاواباتا في احدى رواياته. ماذا كان سيجيبني؟ بالتأكيد نفس الإجابة و بنفس الحماس .

* * * * * * *

لمصر أن تفخر بتاريخها الممتدة جذوره عميقا ...
لا يمكن لأي سائح أن يأتيها ويفوت على نفسه متعة مشاهدة الأهرامات مباشرة. هي متعة خالصة لا يفسد رحلة الوصول إليها إلا سيل من سائسي الخيل المتواطئين مسبقا مع سائسي الجمال.
سيل يبدأ هجومه في الشارع الرئيسي المؤدي إلى منطقة الأهرامات، لحظة توقف سيارة الأجرة عند أول إشارة مرور. يفتح شخص ما باب سيارة الأجرة بغتة و بدون إذن من السائق يجلس على المقعد المجاور له. شخص آخر يحاول فتح الباب المجاور لي. (من جهتي أقوم بغلق الباب. تذكرني المسألة بعملية اختطاف في فيلم ما) يتبين أن الرجل صاحب "حنطور" و أنه يبحث عن مصلحتنا و أنه سيأخذنا إلى الأهرامات بأسعار مناسبة....الخ. لن يتمكن السائق من إقناعه بالنزول إلا بصعوبة بعد أن يتبادلا الشتائم و التهديدات.
يتكرر المشهد في ما بعد على الأقل ثلاث مرات أمام نظرة رجل المرور اللامبالية. يسلمنا سائق التاكسي الشاب لصاحب "حنطور" (يتبين أنهما متفقان مسبقا). نتفق مع الأخير على مائة و ستين جنيها لترتفع فجأة وسط الرحلة إلى مائتين و أربعين جنيها لأن الرحلة كاملة و ستدوم ساعة و...... و... مكررا بين الجملة و الثانية أنه لا يعاملنا معاملة الأجانب و أننا بردو عرب و إخوة.
طبعا من مكان ما يخرج سيل لا ينتهي للباعة، باعة تذكارات مزيفة، باعة أشياء تافهة.أتوقع في لحظة أن يخرج بائع من مكان ما و يطلب منا دفع ثمن الأوكسجين الذي نتنفسه هنا.
بالرغم من أن كل هذا كفيل بتشويه أكثر اللحظات رونقا و جمالا، إلا أنني حذفته من ذاكرتي واحتفظت بصورة الأهرامات الستة مع الصحراء كخلفية للمشهد. احتفظت بمشهد الحمام خلف الأهرامات، هناك قربها...حمام كثير. متسائلة أي تميمة تجذب الحمام هنا؟
في طريق العودة لـ"وسط البلد" مررنا بالمتحف الوطني في زيارة خاطفة كانت كافية لتسرق مني شهقات متتالية.
يحق لمصر أن تفخر بتاريخها ولزاما عليها أن تسترجع كل آثارها المسروقة.

* * * *

مساء الإثنين ..
أردنا التوجه لـ"ورشة الزيتون" حيث سيناقش "أيام الحصر " للروائي جمال الغيطاني لكن القاهرة حينها كانت مبتلة حد النخاع والسعار اليومي لسيارات الأجرة كان قد اشتد أكثر تحت المطر ولا سائق يهتم بأن يتوقف.
بعد يأس، تتوقف سيارة أجرة،لكن السائق لا يعرف "ورشة الزيتون" ...نقول له قبالة مقهى "ألف ليلة وليلة"، لا يعرفها أيضا، ينزلنا على مسافة شارعين من المكان، لتبدأ حينها رحلة البحث بسؤال المارة. طبعا السؤال لا يبدأ بـ: من فضلك "ورشة الزيتون" ؟ بل: من فضلك هل تعرف مقهى " ألف ليلة وليلة" ؟
تقريبا يتكررهذا السيناريو حرفيا في كل المدن العربية...سيناريو البحث عن مؤسسة ثقافية اعتمادا على إسم محل أو مقهى يكون أكثر شهرة "- لدى المواطن - من المؤسسة الثقافية.
حين وصلنا كان قد مر من الندوة أكثر من نصفها

* * * *

مصر ليست النيل و الأهرامات و الأزهر و الفن و الأدب، ليست هذا فقط.
مصر هي الإنسان المصري...

" مين الي محنيلك خضار؟
الفلاحين الغلابة....
مين الي محنيلك عمار؟
عمالك الطيابة...."

( من أغنية لمحمد منير)

مصر هي عامل الفندق الذي يحدثني عن نجيب محفوظ باعتزاز...
هي عامل المصعد و بائع الكشري و بائع الصحف النائم في عراء الشارع و برد الشتاء. هي البنوتة "أمل": "و النبي اديني جنيه يا أبلة."
هي سائق التاكسي الذي أحدثه باللهجة التونسية فيجيبني: "أهلا بـ"عُلية" (مغنية تونسية من جيل الستينات)
هي البائع العجوز في سور الأزبكية الذي لا يهتم بشرائي كتبه بقدر اهتمامه بالدفاع المستميت عن صوت عبد الحليم. بدأ الحوار بأن تونس أعز ناس و أن فريد غنى عن تونس الخضراء. انت بتحبيه؟
أجيبه أني أحب عبد الحليم أكثر. لكن هذه الأيام تامر حسني و. يقاطعني بالطبع قائلا بأن عبد الحليم هو الأفضل ولا أحد بعده. يشعرني بأنه لا يدافع عن صوت فنان بقدر ما هو يدافع عن رمز أو معلم من معالم مصر.


****

القاهرة التي وصلتها ذات خميس والساعة تقارب السابعة مساء رحلت عنها في نفس التوقيت ويوم خميس أيضا، في دائرية أسبوع خاطف و كاف لتكتنز محبة مصر في قلبي ...

الإطلالة الأخيرة:
القاهرة من عل تستعد لليلها الفاتن...

.........

المصدر: مجلة الفوانيس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بكم..
أشرف بتعليقاتكم..
محبتى