الخميس، 18 فبراير 2010

الرؤية الكابوسية في صخب العتمة للقاص فتحي سعد










الرؤية الكابوسية في صخب العتمة للقاص فتحي سعد

بقلم الاديب والناقد/

عبد الجواد خفاجي
.......................




"صخب العتمة" عنوان لمجموعة القاص الراحل "فتحي سعد" التي صدرت عن نادي الدب المركزي لمحافظة قنا عام 2003م، وهي المجموعة الأولي المنشورة له، تحوي عشرة نصوص قصصية، وتقع في ثمانين صفحة متوسطة القطع، بيد أن "صخب العتمة" تقع فعلياً في أربع وأربعين صفحة مكتوبة، وباقي الصفحات كان متروكاً للبياض.. يتنوع طول النصوص وقصرها بين أربع عشرة صفحة ـ كما في قصة "الخراف الشاردة والطفل" ـ والصفحتين ـ كما في قصة "الطعنة".

الملاحظة الأساسية التي تتبدى في نصوص المجموعة أنها تنطلق ـ رؤيوياً ـ من منطلق واحد مشمول برؤية كابوسية للواقع الذي أمسى كابوسياً يؤرق الذات التي تقف خلف نصوص المجموعة، متحكمة في خلق نماذج معينة من الساردين (الرواة) المرهقين المطاردين المهضومين، في مقابل نماذج مهيمنة متسلطة متجبرة تتحكم في تعذيب شخوص القصص الذين ينتمى إليهم السارد في كل القصص، وينحاز إليهم بصفته واحداً منهم.
من منطلق انتماء السارد لشخوصه كان يقص بضمير الـ"أنا" ، بصفته فاعلاً في الحدث في كثير من النصوص، وهو في كثير من النصوص التي يستخدم ضمير "الأنا" يسفر عن وضعيته المهيضة المضطهدة، وهو في كلٍّ صاحب رؤية للواقع المحبط ( بفتح الباء) المحبط ( بكسر الباء) في الآن نفسه، وغالباً ما كان الهم السياسي وعسف السلطة وراء عذاباته والمتحكم في تشكيل الرؤية المتضمنة في النصوص.

من المنطلق نفسه كانت هناك ضمائر أخرى استخدمها السارد لشخوص آخرين، إلا أنه كان يسفر عن وضعيته الطبقية وانتماءاته الأيديولوجية كسارد يقف في صف شخوصه المسرود عنهم، وينتمي بشدة إليهم، ومن منطلق هذا الانتماء كان يعلن عن تحيزه لهؤلاء الشخوص، أو بالمعنى: لم يكن محايداً في عملية القص، التي كانت تعتمد على تسليط الضوء على وضعيتين متناقضتين، إحداهما متسلطة والأخرى مهيضة ينتمي إليها السارد. ومن خلال الوصف والسرد وأساليب القص الأخرى كان السارد يستميل المتلقي نحو التعاطف مع الطرف المهيض، غير ما كان يبديه من تهكم وسخرية ومبالغة في وصف الطرف الآخر المتسلط.

من ناحية أخرى اعتمد القاص على مجموعة من الساردين أصحاب وجهات نظر شمولية، أو بالمعنى: كانت وضعياتهم بالنسبة لشخوص القصص ممارسين للرؤية من الأمام. وهى رؤية تتيح له البروز كشخص عليم بكل تفاصيل حياة شخوصهم ودواخل نفوسهم وأفكارهم وردود أفعالهم، ومن ثم فله كل الحق في فلسفة المواقف والتعليق عليهم وله كامل الحرية في الوصف، وتوقيف الأحداث لممارسة حقه في التعليق عليها.
علي أية حالة هي وضعية السارد العليم بكل شيء، الأعلى مقاماً من كل شخوص قصصه، وهي وضعية تقليدية في عملية القص، وموقعة في كثير من الإشكاليات الفنية التي سنتعرض لها في الدراسة في نقلة أخرى منها.
والملاحظ أن معظم القصص اعتمدت علي سارد واحد لا مجموعة من الساردين، تتضح وحدة السارد لا من وضعيته ولا من وجهة النظر غقط، فقد يتفق كثير من الساردين في القصص في الوضعية أو المنظور الرؤيوي مع تعددهم ، لكنما قد يصبح السارد واحداً في النصوص إذا كان الهم واحدا والرؤية واحدة وأسلوب السرد واحداً والهاجس الذي يتحكم في سيكولوجية السارد واحدة ، والملاحظ أيضا أن ثمة كابوس واحد يهدد السارد ويطارده في حياته كما يهدد حياة جماعته أو شخوصه الذين بسرد عنهم. أما الهم فهو واحد أيضا ينطلق من الأمة المهيضة التي تتباعد عن حضارتها والتي تضيع معالمها وهويتها، وثمة همُّ آخر يتعلق بأزمة الحريات والفقر والتخلف ومظاهر الإهمال في المجتمع. بخلاف ما يعم المجتمع ـ فوق هذا ـ من سلطوية تفتقد لمبررات وجودها، ومن ثم تصبح وسيلتها الوحيدة للسيادة والتواجد هي طلاقة يدها وإطلاقها فوق رقاب المواطنين.

بداية من نص " الكلاب والممر " الذي يعرض مجموعة من الشخوص المسجونين أو الموقوفين للخدمة المؤبدة في مزرعة كبيرة لشخصية متعالية تطل من نافذتها لتتابع هؤلاء في عودتهم من الخدمة مصحوبين بكلاب حراسة تعي عملهاجيداً، وتفي بوظيفتها الحراسية ـكعادة الكلاب ـ في إخلاص بالغ، وتفوق الكلاب فص القصة اعتياديتها في الحياة بكونها تعرف دواخل النفوس، حتى لأنها اكتشفت أن واحدا من المسجونين حدثته نفسه بالهرب، ومن ثم كان جزاؤه كثيراً من التعذيب والتنكيل، وتعرض القصة بعض وسائل وطرق التعذيب البشع العنيف المتنافي مع أدمية الإنسان وقدرته علي التحمل .. الصراع هذا يتم برمته أثناء نوم هذه الشخصية التي تتعذب، ومن ثم ، وخلاصًا من عذاباتها تصحو من نومها لتجد نفسها أمام كلاب حقيقية تسد باب حجرتها . ومع ما في القصة من رمزية تركز علي السلطة وكلاب السلطة البشريين الأوفياء لأسيادهم المتسلطون علي الشخوص وحياتهم إلا أن الملفت في النص أن الأحداث تتم منامًا عن طريق وسيط اعتيادي هو "الكابوس". الأمر الذي ينم عن ردود فعل شعورية لأفعال حقيقية في حياة الشخوص، وإن لم تفصح عنها القصة، إلا أننا نستشف من خلال الكابوس نفسه أزمة الشخوص مع الحياة التي لم تعد تسمح بالأحلام السعيدة أو تتسع لها، وقد امتلأت بالكلاب.

ومن هنا نتوقف عن تكنيك الحلم الكابوسي في النصوص , وهو تكنيك جيد وممارس بكثرة في الأدب الحداثي عمومًا لكنما مهارة الكاتب القصصي عمومًا تكمن في قدرته علي تحويل النص إلي كابوس فعلي لا إلي رواية الكابوس نفسه. أو بالمعني: إن النص الذي يعتمد هذه الرؤية الكابوسية لا يسمح بوجود أشخاص نائمين ثم يستيقظون، بل لا يشير مجرد إشارة إلي ذلك ومن ثم تأتي لغة النص أقرب إلي لغة الأحلام والكوابيس في عدم منطقيتها وتشتتها وعدم ترابطها، وشكليا تأتي بدون أدوات ربط أو علامات ترقيم تمنطق الكتابة، كما إنها ـ في الغالب ـ تعتمد على سارد يسرد بضمير الأنا التي تستبطن دواخلها وتحول الكتابة إلى هذيان حلمي ملئ بالرموز والأساطير واللغة التي لا تقطع بشيء، وتحتاج ـ في الغالب ـ إلى كثير جهد وتأويل، تماماً .. هذه النوعية من الكتابة تسمى "تيار الوعي" أو في تسمية دقيقة "تيار الوعي" الملاحظ في نصوص "فتحي سعد" ـ ورغم اعتماده على تكنيك الحلم والرؤية الكابوسية ـ أن السارد كان مصرًّا على الإشارة والتركيز على أنه يحلم أو يشرد، أو يتصور أو يتوهم، ومن ثم كان يقص لنا تهيؤاته وكوابيسه وهو واعٍ تماماً.

ولعل سبب هذا الوعي التام يرجع إلى وضعية السارد التي كانت أعلى من الشخوص، حتى وإن كان السارد يقص بضمير" الأنا".
ففي نص "الخراف الشاردة والطفل" نحن أمام سارد يقص بضمير "الأنا" ولكننا في الحقيقة أمام نوعيتين من "الأنا" ، أولهما "الأنا" الساردة الواعية التي تقص وتحكي ما تحلم به، وهي واعية بحقيقة الموقف، وبأنها تحلم ويمكنها أن تعلق على ما يحدث، وهي واعية بالزمن وباللحظات التي تنام فيها وتحلم، وباللحظات الشاردة التي تشرد فيها، وما تتخيله وما يدور في مخيلتها على سبيل التوهم.. كل هذا يعكسه النص منقولاً عن السارد كما لو كان يقص عن شخص آخر.ثم هناك" الأنا" المسرود عنها، وهي الأنا" الغارقة في الحلم والممارسة له، والتي لا تعي حقيقة ما يحدث لها إلا عندما تستيقظ، أو تفيق من شرودها، هنا نقول أن "الأنا" الساردة كانت محيطة ومسيطرة وواعية "بالأنا المسرود عنها" وهذا ما فرض على السارد أن يظل كما هو في وضعيته التقليدية التي سبق الإشارة إليها. القص الذي يركز على تحويل النص إلى كابوس حقيقي ومنتمي " لتيار الوعي" يركز على المساواة بين "الأنا الساردة" و "الأنا المسرود عنها" حتى لأنهما يتبادلان المواقع ويمارسان نفس الرؤية ونفس الشعور، أو اللاشعور بحقيقة اللحظة.
إن الوضعية التقليدية للسارد وانقسامه إلى "أنا ساردة" مهيمنة، و "أنا مسرود عنها" مسيطّر عليها، أوقع السارد في كثير من الإشكاليات الفنية سنشير إليها في الجزء الثاني من الدراسة، كما فرض على اللغة جموداً لم يؤهلها إلا لتوصيل ما يحدث، أو التركيز على نقل واقعات ما يتم، وهي وظيفة ولا شك ليست إبداعية، وإن كانت بالدرجة الأولى نفعية، تتساوى فيها مع أي لغة أخرى غير إبداعية.

في هذا النص نحن أمام السارد الذي يجد نفسه فجأة أمام عفريت وقد أطفأ عليه العفريت مصباح الحجرة وراح يطارده ولم تفلح معه نداءات الاستغاثة إلي الأهل، كما أن الأهل لم يستيقظوا لنجدته، ومن ثم كانت الفرصة متاحة للعفريت لأن يستفرد بالشخصية ويراوغها ويساومها ويعذبها وأحيانا كان يغريها عندما يتجسد في شكل فتاة شقراء مغرية تدعوه إلي مضاجعتها، بهدف تحويله عن مساره الإيديولوجي والقيمي في الحياة والاستيلاء على زمام مشاعره وتفكيره، ومن ثم السيطرة عليه، إلا أنه كان يتعوذ من هذا العفريت، وتشكلاته المختلفة، ويتحصن ضده بالقرآن الكريم في كل مرة .. الإشكالية أن كل ذلك كان يتم في الحلم الكابوسي الذي يلازم السارد كل ليلة، الأمر الذي اضطره إلى الذهاب ـ في الحلم أيضاً ـ إلى طبيب ،ومن ثم كان الحلم مركباً ؛ لأنه يتحول بنا إلى عيادة الطبيب "أبي ذر الغفاري" الذي أدلى بدلوه في الموضوع .. النقلة الثانية أن "أبا ذر الغفاري" لم يكن فقط طبيباً، بل أستاذاً للسارد أيضاً، فيما ينفتح النص على مساحة أخرى من المساجلات الكلامية والخطب والآراء الفكرية والدينية، والارتماء في أحضان التراث الإسلامي بشخصياته ورموزه تحصناً من العفريت الذي ظل يطارد السارد في كثير من المواقف الكابوسية التي تتم في الحلم.
حتى عندما يفيق السارد من كابوسه كان يجد نفسه شارداً مفكراً غارقاً فيه، وهو الطالب الأزهري الذي يتعلم على يد أستاذ أزهري لاحظ شروده وعلم بما في الأمر؛ فأدلى بدلوه هو الآخر في الموضوع، ولكن الأمر لم يتوقف عند ذلك ، بل تخطاه إلى واقع جديد، فقد أصبح العفريت واقعاً يتهدد الجميع بمن فيهم أستاذ السارد الأزهري، حتى أن الأمر انتهى بقتل الأستاذ الأزهري على يد العفريت، ومن ثم الشروع في قتل السارد العنيد الذي لا يزال يتحصن بالقرآن.
وفيما يحمله النص من رموز ودلالات مثل " الدولارات ـ النجمة السداسية " نلاحظ أن العفريت / الكابوس ما هو إلا تجسيد لواقع كابوسي يحياه السارد في ظل سيطرة القوى العظمى الأمريكية والإسرائيلية على الأمة العربية المسلمة برموزها وتراثها وثقافتها.
نلمس في هذا النص الوازع الديني ودوره في تحريك المشاعر نحو الرفض، ونلمس كذلك تداخل اللحظات وعجن الأحداث والأزمان، تمثلاً لهيكلة الكوابيس في تشكلها، واختلاط الوهم بالحقيقة، والماضي بالحاضر، والحلم بالعجز وبمحاولات الخروج والخلاص من أزمة الواقع المتردي، كما نلمس الهروب إلى التاريخ الإسلامي وماضيه المجيد من زاوية ألصق بالممارسات الدراويشية التي تركز على التوسل العاجز الشفاهي بآيات القرآن، كعمل من شأنه أن يحرك القوى القدرية الإلهية للدفاع عن عنا وحمايتنا من العفاريت الأمريكان والإسرائيليين .. هكذا تنحصر الرؤية في محيط العجز والدروشة والعمل الشفاهي والحلم بالقوى الإلهية، شأن كل قوى منسحبة من الحياة ، وغير فاعلة ، وربما هي صورة من حياتنا المعاصرة وحضارتنا المتنحية المنكفئة أمام حضارة عفريتية قاهرة.
نفس الوازع الديني في قصة" السلسلة" حيث السارد الذي يستمد قوته الروحية ـ في لحظة التعذيب ـ من صورة السيد المسيح المصلوب .. كان الوازع الديني محركاً للمشاعر نحو الرفض، وتخطي لحظة الضعف نحو القوة، حيث المسيح يملي علي الشخصية الواقعة تحت العذاب تعاليماً جديدة مفادها: " لا تدر خدك الأيسر" وهنا نلاحظ انحراف النص عن الأصل (فأدر خدك الأيسر) فيما يفضي هذا الانحراف النصي إلى رؤية جديدة، يتأكد معها أن المسيح لو عاد إلى الأرض في زماننا / زمان الطواغيت هذا، لعاد بموقف جديد مختلف، مؤيد لهذا الإنسان المهيض، غاضباً لما يحدث ضده من قسوة بالدرجة التي تستدعي تغيير النصوص القديمة، أو لكأن النصوص المقدسة القديمة لم تعد كافية للتعازي والتصبُّر في واقع فائق البشاعة والقسوة.
الملاحظ في النص أيضاً ظهور الشخصية المتفردة بقسوتها وسلطتها وقوتها، والممارسة للتنكيل والتعذيب، لشخصية السارد مهيضة، بهدف نزع اعترافات منه على جرائم لم يرتكبها، بل يجهلها .. إنها السلطة العمياء المتجبرة إذن تمارس دورها القبيح باتجاه الحياة.
الملاحظ ـ أيضاً ـ أن النص امتداد للنصين السابقين في رؤيته الكابوسية التي تحوِّل الواقع الفعلي هذه المرة إلى كابوس تمارسه الشخصية فعلاً، إلا أنها ـ أمام قسوة الواقع ـ تهجر الحياة بروحها، لا بجسدها إلى عالم فوقي نوراني، مسكون بالسيد المسيح ومن حوله الملائكة، الحدث الذي يتأكد معه موت الشخصية وانطلاق روحها إلى السماء، مودعة الأرض الخراب، مخلفة جسداً كثيراً ما شقي وكثراً ما تعذب، وإن بدت عليه كل دلائل الإدانة لكل أعمال العسف والظلم والتجبر السلطوي الذي غالباً ما يمارسه الحكام على المحكومين في الأرض التى لم تعد غير أرضٍ خراب.
توازياَ مع الواقع الكابوسي الذي يفرض رؤية كابوسية على السارد ويحركه في إطار من الكوابيس والتهيؤات والمخاوف ، وفي إطار العالم الملئ بالمتناقضات ، وبكل ما هو مؤسف من قهر وتعذيب، يأتي الواقع الغر ائبي فارضاً على السارد رؤاً غريبة ينطلق من خلالها لرصد واقعاً غرائبياً في عالم هو من صميم الواقع إلا أنه فوق تصورات العقل، بما يحويه من صور التسيب والانحلال، حيث العوالم المصنوعة بدقة وعناية، إلا أنها ـ رغم ذلك ـ تأتي متناقضة، وضد طبيعة الحياة، وفطرتها .. تأتي الغرائبية في نص "الذيل" مصحوبة بالفانتازيا التي تخيِّل المتلقى باتجاه توقع كل ما هو غريب في عالم فادح الغرابة مثير للعجب، حيث الأشخاص تنبت لهم أذيال ذات شعر خشن.
مثل هذه الرؤية وامتداداً لها يأتي نص "الموكب" حيث الشخصية التي تلتهم الأطفال الأعزاء، مضطرة أمام ضرورة العوز، وحالة اشتداد الفقر . الفقراء لا الفقر هم من يأكلون الأطفال /المستقبل الآتي. الشخصية أيضاً في هذا النص كانت ممارسة لتهيؤاتها وهواجسها وارتطاماتها النفسية، مؤكدة من خلال ذلك أنها ليست سوية، في واقع بدا أكثر سوءاً ولا إنسانية.. النص بما فيه من غرائبية لم يستطع ـ رغم ذلك ـ أن يتجاوز حدود الخيال الجامح نحو صنع قصة حقيقية إلى التخييل الذي ينم عن رؤية حقيقية لها قدرتها على تأويل وفلسفة الواقع إذ تحوله إلى فن، فقد رأينا الرصد الطوبوغرافي لواقع يضفي سطوته على الخيال ويلبسه ثوب المنطق، عندما تنتهي القصة نهاية منطقية تماماً ، إذ تركب الشخصية ـ وسط موكب الأطفال ـ سيارة "السرايا الصفرا" .. إن صرامة المحددات المعقلنة التي فرضت على الأحداث أن تكون موازية لما يحدث في الواقع الفعلي وصدى له حجمت من توجهات السارد الغرائبية المجاوزة لحدود الواقع والمنطق فيما حاولت صنعه من عالم قصصي يعج بالأحداث.. إن هذا التضارب في منظور القص يجعلنا بدرجة ما نتهم السارد بالتصنع، إذ تبدو القصة بغير تجربة حقيقية، وهي تتمحك في الفن دون أن تكون بالفعل حاملة لرؤية ما، وقد سقطت وسط مخالب رمز بلا قيمة ايضاً مثل: " المرأة المشروخة ـ روميل ـ عبدالناصر ـ الملك ـ النحاس باشا ـ وما إلى ذلك من رموز" .. صحيح أن ثمة دافع لدى الشخصية يدفعها للهذيان .. هذا الدافع كان اختفاء الطفل الابن، الأمر الذي كان له أثره على عقلية الأب، أما لماذا تشير الشخصية بتهيؤاتها وصراعاتها النفسية وهذيانها إلى هذه الرموز بعينها ، فذلك ما لم يجب عنه النص .
وعودة إلى الرؤية الكابوسية والغرائبية معاً في نص "الكيان" حيث الشخصية التي تتخيل آلامها في الجوف كائناً غريباً له مخالب تنهش، هذه التهيؤات تتضخم ويستمر هاجس الخوف من هذا الكائن الغريب إلى أن يحدث ما تخاف منه الشخصية ويتجسد أمامها هذا الكائن المخيف خارجاً من جنب جسدها، وقد أكدت الشخصية صراحة في النص أن ما يحدث لها ليس تهيؤات أو كوابيس، ولعل هذا التصريح هو أول دلائل مرض الشخصية، إذ تؤكد أن ما تتوهمه ليس وهماً، إنها شخصية مهيَّأة نفسياً لتصديق كوابيسها، ولعل التفاصيل تلقى كل تبعة مرض الشخصية/ السارد وآلامه النفسية وتهيؤاته وعذابته على الواقع المتجسد هذه المرة في مانشتات الصحف، وفيما تنقله من أخبار مؤسفة وصادمة .. صورة الواقع التي تجسده هذه الصحف كان يفرض سطوته على السارد، غير أنه كان يلون الأحداث بغرائبية موازية لغرائبية الواقع.
في محاولة لاجتياز الغرائبية والكوابيس تأتي القصة في بعض النصوص معتمدة على سارد له رؤية واقعية هادئة لكنها مشمولة بالحزن،حيث ينقل لنا صورة الأم المكلومة التي ثكلت ابنها الوحيد من أجل الوطن في إحدى الحروب المتوالية بداية من حرب اليمن إلى الحروب مع إسرائيل، مات الابن وجاء خبر موته لتصبح حياة الأم سوداء ، فيما يمارس السارد بجوارها البكاء، لكأن كل ما في النص كان مبرراً لكلمة "بكيت" التي جاءت في آخر النص، مؤكدة أننا أشخاص عجزة بالفعل إذ نمارس البكاء على الأبطال النادرين في هذا الوطن، غير ما يطرحه النص من أن أمثال هؤلاء الأبطال هم إفراز الطبقة الأدنى الفقيرة، حيث حالة الأم تعكس فقرها .. النص يعكس ميل الحس الشعبي إلى البطولة وتمجيده لها، كما يركز النص على وضعية الطبقة البسيطة التي عليها وحدها ـ رغم بساطته ـ أن تضحى بكل شيء من أجل الوطن، حتى لو وصل الأمر إلى التضحية بالنفوس، وهي ـ وحدها ـ التي عليها أن تقدم الجنود المجهولين للوطن الذي لا يحفل بتلك الطبقة في الأساس، والدليل من النص هو حالة الأم التي تعاني الانقطاع والعجز والعوز، فيما تستبد بها الشيخوخة والأمراض، دون أن ييأل عنها أحد أو يعتني بها وهي التي قدمت للوطن فلذات أكبادها.
*************
** ملحوظة : للدراسة بقية تحت العنوان الفرعي " إشكاليات السارد "

..........................
.......

* فتحي سعد واحد من أبناء محافظة قنا بجنوب مصر عاش حياته مهموماً بالإبداع، كانت تشغله القضايا الكبرى في الحياة، ومجمل القضايا المجتمعية والوطنية، رحل عن الدنيا صباح السبت 31 يناير 2009 م عن عمر يناهز الخامسة والأربعين ..أصدر له النادي الأدبي المركزي لمحافظة قنا مجموعته " صخب العتمة " عام 2003 م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بكم..
أشرف بتعليقاتكم..
محبتى