السبت، 18 أكتوبر 2014

تأملات طائر في قصائد مغربي






تأملات طائر في قصائد مغربي
 
محمود مغربي يوازن بين الذاتية والغيرية، بين الوطني والقومي، بين جلسة المقهى الثرثارة وحركة الشارع الفياضة بالقصائد.
 
ميدل ايست أونلاين
بقلم: د. مجدي توفيق
أوتار دقيقة
محمود مغربى شاعر مجيد، قدمَّ نفسه للقراء بديوانه السابق "أغنية الولد الفوضوي"، فكان تقديماً ممتازاً دل على شاعر لغته غنائية فياضة بالشعور، ودلت كل كلمة من كلمات عنوان ديوانه على سمةٍ من سمات دلت كلمة (أغنية) على نوع اللغة الشعرية التى يستخدمها، وهي لغة غنائية كما قلت لا تعول كثيراً على الحكي والسرد كما يعول عليهما كثير من الشعراء المعاصرين.
ودلت كلمة (الولد) على نظرة الشاعر لذاته نظرة خاصة تناسبها كلمة الولد، ولعل القارئ قد لاحظ الطريقة التي يستخدم بها الناس هذه الكلمة، وهي طريقة تتراوح بها بين معنيين متناقضين، فهم يقللون من قيمة إنسان ما حين يسمونه بولد، وهم يشيرون إلى البطل العظيم بأنه (ولد).
والذات الشاعرة في الديوان السابق تشعر بعجزها شعوراً قوياً يناسبه المعنى الأول، وتحلم بالتغيير والثورة والمجتمع الأفضل، في الوقت نفسه، حلماً يناسبه المعنى الآخر، ولا يزال المعنيان حاضران في الديوان الحالى "تأملات طائر".
فهو من جهة، يقول في مطلع قصيدته "إلى حبيبتى بغداد!":
يا حبيبتى
بندقيتى معطلة
لذا
لا تندهشي
عندما أفتح أبوابي للصوص
وأنحني إجلالاً
وهو من جهة أخرى، يختم قصيدته التي يخاطب فيها رسام الكاريكاتير الراحل ناجي العلي قائلاً:
طلاب الدرس
وكل طوائف هذا الشعب
ينادونك
ما زالوا
لن يبهرهم ذاك الضوء المدريدي،
إنهم الآن
يلتحفون الثورة
الموضع الأول فيه شعور جسيم بالعجز يصل إلى درجة أن يفتح الأبواب للصوص وينحني لهم إجلالاً، فلا فائدة من مواجهتهم ما دامت البندقية معطلة، وبطبيعة الحال لن يفتح الأبواب للصوص فتحاً حقيقياً، ولكنه يريد أن يقول إن التردي العربي، والعجز الشديد عن مواجهة الأعداء لأغرابه معه حين يصل الأمر إلى حد إجلال اللصوص، وفي الوقت الذي يبلغ فيه الوعي بالعجز هذا المدى نجد الموضع الآخر يؤكد أن روح الشعب لا تزال تلتحف بالثورة، لا يخمد روح الثورة فيهم معاهدات السلام التي دشنتها لقاءات مدريد.
فالذات من جهة، ترى نفسها كياناً ضعيفاً عاجزاً، وتراها، من جهة أخرى كياناً لا يكف عن أن يحلم بالثورة والتغيير.
ويبدو أن الالتباس بين هاتين الحالتين هو ما رشح للشاعر الكلمة الثالثة من كلمات عنوان الديوان السابق، كلمة (الفوضوي) فهي تناسب حلم الثورة بما تدل عليه من رفض للانتماء للحاضر القائم، وتجاوز لما هو شائع وسائد من قوانين للواقع المتردي، ولكنها في الوقت نفسه، لا تبلغ حد أن تسمى الذات بالثورة، بل تسميها بالفوضى التى طالما استخدمها أعداء الثورة والتغيير نعتاً للحلم الثوري يسئ إليه ويدينه.
ونستطيع أن نقول إن الديوان الحالي يتابع الديوان السابق في هذا كله: اللغة الغنائية البسيطة، ذات المقاطع القصيرة التي تجعل الديوان خفيفاً على قارئه يلتهمه التهاماً، وصورة الذات المتراوحة بين اليأس والحلم، بين العجز والثورة.
ولكن المقارنة بين العنوانين: العنوان السابق والعنوان الحالي، يمكن أن تدلنا على تغيير جديد بين الديوانين، فالديوان الحالي يستبدل بالأغنية التأملات، ويستبدل بالولد الرابض على الأرض، الجالس على المقهى يرقب السائرين والسائرات وما يحملون في جوانحهم من قصائد، يستبدلون بهذا كله طائراً محلقاً يتأمل ذاته وحياته وعالمه الأرضي.
ولا يزال الديوان الحالي ينطلق من حالة حب للحياة ـ على الرغم من اليأس كله، والإحباط كله ـ يتجسد في صورة محبوبة تلوح ولا يفصح عن كينونة ثابتة لنفسها فهي الوطن، وهي الحلم، وهي السعادة، وهي أشياء كثيرة أخرى تتسع لها:
الصباح
الذي كم تباهت به
تماماً تلاشى
رغم ذلك
لسلطانها
سطوة في قلب عشاقها
ومع أنها تحتمل أن تكون امرأة معينة فإن الأرجح والأشد ظهوراً أنها شيء محلق كطائر الرمز، لذا تتسع لجمهرة من العشاق لها عليهم سطوة، واقترانها بالصباح يفسره كونها ـ من بعض الوجوه ـ شهرزاد التي تشغل الليل بالحكايات، وتنتقل إلى الراحة مع مقدم الصباح :
شهرزاد
ودعت بستانها
حكاياها
رغم ذلك
تهندس المساء في هدوء
ومن المؤكد أن صورة شهرزاد مختلفة عن الصورة الموروثة المعروفة، فهذه قد ودعت بستانها وحكاياها، ولكنها في جوهرها لا تزال تهندس الأحلام طوال المساء. وأرجو ألا تجعلنا الأحلام نتصورها كياناً ناعماً هادئاً يمكن أن ينطوي على صورة للمرأة المشتهاه، أو على نوع من أنشطة العزيزة، ولكنها كيان ذو سطوة وصعاب :
قالت
عد من حيث أتيت
لا تتبعني
فأنا نار !
قلت :
للنار سأمضي
علىّ أشعل بعضاً
من ثلج السنوات
هي كيان يعد من بعض الوجوه، ناراً يتجه إليها كالفراشة.
ويبدو أن التباس صورتها بصورة المرأة هو الأمر الذي جعل الديوان حريصاً على الفصل بين صورة المحبوبة هذه وصورة الزوجة، بداية من :
قالت
لا أكره زوجي المسكين
ولا أحبه
لأنه فقير
بلا بصيرة
ليدرك مباهجي
فقط
وحدك أنت
الشاهد العيان
وهذا الخطاب الذي يصدر عن لسان الأنثى يقابله مواضع أخرى يأتي فيها الخطاب على لسان الرجل العاشق:
فقط للزوجة أن تهيئ الجسد
وللحبيبة وحدها
أن تنشر مفرداتها
على حبل روحي
ليقيم التقابل واضحاً بين الزوجة والمحبوبة، تصبح فيه علاقته بالزوجة علاقة جسدية وتصبح فيه علاقته بالمحبوبة علاقة روحية محضة في المقابل، ولقد جر هذا التصور للزواج الديوان إلى مقاطع يبدو فيها الشاعر عدواً للزواج بصورة تجلب الابتسام في بعض المواضع ولا تخدم الروح العامة للديوان.
وفي تقديرى أن فكرة التقابل بين صور المرأة المختلفة في الديوان قد جرت إلى شيء من الإسراف في هذا الجانب.
وأرجو ألا يتخيل القارئ أني أرى الديوان غارقاً في الذاتية، فسرعان ما يخرج الشاعر عن حدود ذاته ليرى في ناجي العلي صورة أخرى من همومه، ويرى في بغداد صورة أخرى من واقعه، ويستشرق أفقاً عربياً أوسع، أعتقد أنه أفق حاضر داخل حدود النفس بأحلامها ويأسها وفوضاها وتأملاتها جميعها.
وبفضل هذا التوازن بين الذاتية والغيرية، بين الأنا والآخر، بين الوطني والقومي، بين جلسة المقهى الثرثارة وحركة الشارع الفياضة بالقصائد، بين المراهق والعجوز الكامنين في نفس واحدة، يستطيع الديوان أن يلمس أوتاراً دقيقة يعزف عليها برهافة.
د. مجدي أحمد توفيق ـ القاهرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بكم..
أشرف بتعليقاتكم..
محبتى