الثلاثاء، 26 أبريل 2011

صورة الذات... صورة الكون في"اول كلامي" للشاعر عبده الشنهورى بقلم:د / شعيب خلف


صورة الذات... صورة الكون في"اول كلامي"

للشاعر عبده الشنهورى

بقلم:د / شعيب خلف





عبده الشنهوري



تعددت فنون القول علي مر العصور لتلبي حاجة الإنسان للتعبير عن ذاته وعن المحيطين به ، وعرفت العديد من الأماكن بالنبوغ في فنون قول معينة طبقًا لعاداتها وتقاليدها وسماتها المكانية وطبقًا للظروف السياسية التي تسود العصر التي تعيشه ، من هذه الفنون التي راجت في أماكن معينة كان فن الواو الذي أرتبط بالصعيد عامة وبقنا علي وجه الخصوص ، فبدايته التي أرجعها أغلب الباحثين تعود إلي الشاعر أحمد بن عروس الذي عاش في قنا في أيام العصر المملوكي . كان المماليك يحكمون البلاد ، وكان شاعرنا كارهًا لهم ولحكمهم وتصرفهم في شئونها، وأيًا كان ابن عروس شخصية وهمية أم حقيقية ، تونسية أم مصرية ، زاهدة ناسكة أم قاطعة طريق ، الأمر لا يهم كثيرًا بقدر ما جاء علي لسان هذه الشخصية أو التصق بها من تراث شعري ، ولما كانت اللغة الفصحى قد تراجعت بقواعدها وإعرابها ونحوها وصرفها علي لسان رجل الشارع في هذه الأيام والذي ورث منذ العصر العباسي تراجع الفصحى كلغة حوار بعد أن سيطر العنصر غير العربي علي سياسة الدولة ، كان لابد أن تتغير فنون القول التي تتجه للناس ، تحكي حالهم وتعبر عن متاعبهم ، فلم تكن قصيدة الفصحى واقعية التعبير عنهم وعن قضاياهم ، ولم تكن قادرة طبقًا لظروفهم علي التغلغل في نسيجهم فانتشرت القصيدة الشعبية بجميع شكولها ، وكان من ضمن هذه الشكول (فن الواو) . هذا الفن السماعي الذي يحمل حيلاً لغوية تعتمد علي بلاغة القول الشفاهي من جناس وتورية وتعريض ،ويعتمد علي الإيقاع الموسيقي العالي الذي يوفره بحر (المجتث) الذي نال شهرة عالية في أيام العباسيين وما بعدهم إلي اليوم . هذه الحيل من بلاغية ولغوية وموسيقية استخدمت بكثرة في هذا الفن، وكانت عنوانًا عليه كما كان ارتباطه بالناس عنوانًا آخر. إن تسمية هذا الفن بهذا الاسم دلالة علي ارتباطه بالناس لأن استخدام الواو للربط دلالة علي التوقف الكثير أثناء إلقائه علي الناس وهم يقومون بتفكيك معانيه ويتمعنونها ، وقد وسمته هذه الشفاهية ببعض السمات الشكلية ، كالتفنن في القافية التي تعتمد الجناس بأنواعه التام والناقص ، فتتماثل قافية الشطر الأول مع الثالث والثاني مع الرابع .

بين أيدينا ديوان ( أول كلامي ) للشاعر عبده الشنهوري ، وهو ديوان يجول ويصول في عدد من الموضوعات التي طالما شغلت كثيرًا شعراء هذا الفن وهي : التوجه للمولي عز وجل الذي إليه يئوب المتعبون ، ويقصده اليائسون ، وإليه يستند البائسون ، والتودد بمدح النبي صلي الله عليه وسلم ، والحديث عن الدنيا وغدرها وعدم الركون الآمن إليها ، كما يتحدث عن أزمتي العراق وفلسطين ، وتحدث أيضًا عن حب الوطن الذي لا يضاهي ، وبالمثل لم يغفل عن موقف الوطن من محبيه ، كما يجول في موضوع الصبر علي المكاره الذي يتصف به أصحاب المروءة من الناس ، ولذلك يغريه الحديث عما طرأ علي الناس من تبدل صفاتهم ، وتغير قيمهم ، لقد تغير الناس وانتقلوا من محمود الصفات الإنسانية التي فطر الله الناس عليها وأكدتها العقائد إلي صفات ممقوتة ، ومن هنا يركز في الحديث علي (نذالة) الإنسان ، ولا ينس الشنهوري الأنثى ومربعاته الرومانسية التي تفيض عذوبة ورقة ، ينتقل بعدها للحديث عن الروحانيات من خلال حديثه عن رمضان .

يبدأ الشنهوري ديوانه بذكر الله تعالي والصلاة علي نبيه صلي الله عليه وسلم وهذا أمر طبيعي لدي شعراء فن الواو ، لأن شفاهة القصيدة ، وتوجه الخطاب إلي المستمعين جعلت الشاعر الشعبي يتوجه دائمًا لاستمالة هذا السامع ، ولفت انتباهه ، وهو في هذا لا يجد أروع من ذكر الله تعالي بالنسبة للسامعين عامة ، وعوام السامعين بصفة خاصة للفت الانتبــاه .

أول كلامي أذكر الفـرد

واحد ما تاني له دايــم

وضح لنا الحق والفرض

وفـ طاعته نجني الغنايم

ويثني بمدح النبي صلي الله عليه وسلم والصلاة عليه كجانب مهم من جوانب جذب المستمعين إليه :

وأصلي وأمدح نبي زين

عليه سلامي وصلاتـي

عزي وأنا قربه عزيـن

وبربي وثق صلاتــي

بعد ذلك يبدأ الشاعر في طرح القضية الكبري التي تشغل الناس عامة والشعراء أصحاب التعبير عن أوجاعنا بصفة خاصة ألا وهي قضية اغتصاب الأرض في بلادنا العربية ، التي تؤرق كل حر، فالأرض والعرض في عرف الأحرار صنوان ، لا تزال فلسطين جرحًا غائرًا لا يريد أن يندمل ، وزاد الطين بلة انفتاح جرح آخر ، كل يوم يزداد اتساعًا وعمقًا ، بوابة العرب الشرقية . إن قضيتي فلسطين والعراق تحظيان باهتمام بالغ من قبل الديوان وصاحبه ، حيث يأتي أكثر من ثلاثين مربعًا يتحدث عن فلسطين والعراق، فيتحدث في أول القصائد عن الدم الذي يملأ جميع الأركان ، ولا أحد يهتم بما يحدث وكأن الأمر لا يعنيهم ، والخطب هين ، فقد عمت المعصية الأركان :

اكتب يا كاتب عن الـدم

مالي السكك والنواصـي

لا أخ ينجد ولا عـــم

في عصر عبد المعاصي

ويتحدث في المربع الذي يليه عن الحصار الدائم لأهل فلسطين عامة ولأبناء غزة بصفة خاصة أما الطفل الذي يواجه الدبابة والمدفع والصاروخ بالحجر فجاء المربع الذي يليه يفيض مرارة ، كما يفيض بلاغة ، ففي الوقت الذي ينسحب الرجال من المواجهة وهم الأولي بالمواجهة ، يقف الأطفال /الرجال، يهرول إليهم الحجر ليقف بجانبهم حين فر الرجال :

اكتب يا كاتب علي جيل

شرب الطفولة مـرارة

لما خانتهم رجاجيــل

وقفت معهاهم حجـارة

ولم يكتف الشنهوري بهذا المربع ليسجل به بطولة الطفل والحجر بل يتبعها بمربع كما سلف يفيض بلاغة بجوار ما يفيض من مرارة يخلد فعل البشر والحجر :

اكتب يا كاتب علي أحجار

وقفت قصاد المـــدافع

صرح القبيلة بينهـــار

والطفل هو المـــدافع

أصبح الطفل هو البطل في الصورة هو المدافع بحجره ، هو الذي يعيش المرارة ، مفارقة غريبة بدلاً من أن يعيش الطفل براءة الطفولة ، يعيش مرارتها ، هو الذي يستجير ويستغيث وينادي الصامتين الساكتين من خلف أسلاك الحدود الوهمية التي صنعها الاستعمار من قبل للتفتيت والتقسيم ، وتحقق له ما أراد من تفتيت وتقسيم وضعف ؛ فمن تنادي ؟ أتظن أنك تنادي أحياء ؟! ، لا حياة يا سيدي لمن تناد:

الطفل واقف ورا السلك

ينده علينا بحرقـــة

"ديارنا كانت لنا ملـك

أخدوها عنوة وسرقـة

ولم تكن العراق بعيدة عن ديوان الشنهوري ، الجرح الأخر في جسدنا العربي ، هذا الجسد الذي لم يطب له جرح حتي يبدأ الآخر ، وهكذا حتي تهرأ الجسد كله وازدادت جروحه ، وتكالبت عليه الأمم . يبدأ في أحد المربعات بذكر الهجمة الغربية علي بلادنا العربية :

باين لي عصر الهمج عاد

يزحـــف ولا حد داري

من غبر مناسبة ولا معـاد

جاء الغرب يسكن ف داري

ثم يتوجه واصفًا ما حدث لهذا الركن المهم والبوابة الشرقية لبلاد العرب والمسلمين التي طالما وقفت لفترات طويلة حائط صد في مواجهة الجبابرة والطغاة علي مر الأزمان علي بلادنا :

هجمت ديابه علي عراق

نهشت ما خلت خلايـق

والدم يصرخ فــ لعراق

والجسم كره الخلايـــق

كما يشغل الشنهوري في ديوانه تغير المجتمع والناس ، وذهاب القيم والمبادئ ، لم يعد الصديق صديقًا ولا الصاحب صاحبًا ، بل لم يعد الابن في كنف أبيه وطاعته ، الكل خرج علي أعراف السلطة الأبوية ، وتمرد بلا داع مقلدًا تمرد أبناء لا أب لهم ، ولا مرجع إليه يرجعون :

كان لي صاحب أري بيـه

ويزيدنـي في الشدة شدة

دلوقتي ابني أربيــــه

يرميني في وسط شــدة

وكثيرًا ما خان الصحاب صحابهم وهي أسوا أنواع الخيانة ، فالخائن حين يخون ، فالأمر منه متوقع ووارد ، أما أن يخون الصاحب ، فالأمر لم يكن أبدًا متوقعًا ولا واردًا ، فحين يحدث تكون المفارقة والفجيعة في زمن كثرت فيه المفارقات ، وازدادت فيه الفجائع :

سلمت دقنك لأنــدال

وعملت منهم صحـايب

قلاب زمانك وعــدال

ما هتجني غير المصايب

كما تشغل الشنهوري تصرفات الناس وتراجع القيم وذهاب المبادئ ، يظل مقت النذل مسيطرًا في العديد من قصائد فن الواو بداية من ابن عروس الذي قال :

ماتقـــولشى للندل يا عـــم

وان كان على الســرج راكـب

لا حد خالى من الهـــــــم

حــتى قـــلـوع المـراكب

وتجد هذا المعني في كثير من قصائد الواو بعد ذلك معني يتردد كما يردده الناس علي مر العصور، وصفة مذمومة ينفر منها أصحاب الخصال الحميدة علي مر الدهور:

الندل ياكل مع الــديب

ويعود مع الراعي يرعي

وكلامه يطلع كما الطيب

والفعل كما الفعل أفعـي

ويستحق (النذل) أن يوصف بأقذع الألفاظ لأن ما يحمله من صفات ممقوته ، تجعل حمله هذا ثقيل :

لمينا في الندل ما اتلـم

وسحب لسانه لبــره

يرحم أبوه اللي مات لم

يحكم علي شقف جـرة

يقابل الشنهوري صفات النذالة بسمات المروءة عند الإنسان من خلال إعلاء سمات الصبر علي المكاره :

بانسي الأسية ولي صحاب

وباقول للنفس رقــــي

وإن خد زماني أوان جـاب

ما هخدش يوم غير حقــي

ويقول أيضًا في صبره علي المكاره وإيمانه الكامل بأن الله تعالي قادر علي أن يجعل لعبده التقي مخرجًا من كل سوء :

مضطر أركب الصعب

وأصبر لغاية ما تفرج

ولو المكاره بقت شعب

ليها من الله مخــرج

ويتوجه الشنهوري في العديد من المربعات إلي البحر الصاحب ، حين يعز الصحاب ، والصديق حين يغيب الأصدقاء ، البحر دائمًا معين علي الوحدة ، رمز للنقاء ، يري الرائي في وجه صفحته ذاته ، دائمًا مايأتي مشخصًا يبادل الحوار من يحاوره ، يبادله الحنين وهو يمشي الهوينى حين يسير الموج ناعسًا :

يا بحر موجك ـ علي ـ مال

وحدف حنينه في عبـــــي

ولا غير قليبي ـ لي ـ رسمال

منه الحبايــــب تعبـــي

وكثيرًا ما يربط الشنهوري بين قلبه والبحر كما حدث في المربع السابق وبين المربع التالي :

ويطل قلبي علي البحــر

أبو موج عالي صهيلــه

وجياد تركض علي الصخر

والشط طارح نخيلــــه

ولا يخش الشنهوري من التصريح بأنه لا يثور ولا يغضب وبؤثر الصمت دائمًا ويبتعد عن القيل والقال :

طول عمري عايش في حالي

أنشد سلامي وسكونــــي

وأحلم بصمتي محي لـــي

صفحة مسالب في كونـــي

ويردد المعني ذاته في الرباعية التالية :

ووضعت راسي بين الروس

يا دنيا الله ولا انتـــــي

ما بين مبعتر ومرصــوص

لا عايز دكورة ولا نتـــي

ولا يمكن أن يكتب الشنهوري وينسي حب الوطن الذي ينضح من جميع قصائد الديوان ، علي الرغم مما تراه أحيانا في خلال هذه القصائد من ذكر للغبن ، مرة يجعله يخرج صريحًا ، ومرة يغلفه حياء من طغيان حب الوطن حتي لا يفسد علي المحب حبه :

راعيت شياهك في صغري

ووشمت علي زندي نيلك

وكبرت أصونك بعمـري

وحجبت عني دليلـــك

ما أصعب أن يحس الإنسان الغبن والنكران ممن يحب ، ويتفاني في حبه ، لقد أذاقنا بيت المتنبي مرارة ظلم ذوي القربي الذي كان أشد مرارة علي النفس من وقع الحسام المهند ، فإذا كان الحبيب الوطن ، كانت مرارة الغبن أوقع علي النفس ، وأشد مرارة :

طول عمري أزرع وأبنــي

وفــــ إيدي كل الصنايع

وقميصي أعطيه لابنـــي

ونصيبي في البخت ضـايع

ويقول أيضًا ليؤكد هذا الغبن ، بعد متاعب حياتية كثيرة فرضها عليه حب الوطن والتفاني في خدمته ، وهذا أمر طبيعي يقوم به المخلصون دون إيحاء من أحد ، ودون توجيه من صاحب ملك أو سلطان؛ لكن حين يقابل كل هذا الحب ، وكل هذا التفاني بهذا الغبن ، فالأمر يقبل علي مضض وأقول يقبل لأن الوطن كالوالدين يصعب علي المرء محاسبته ورد فعله عليه مهما كان الفعل قاسيًا :

طول عمري أشرق وأغرب

وازرعك ترابك واراعــي

وارجع فـ لحظة ما أقرب

مقهور حتي نخــاعــي

ويستمر الدعاء لها مهما حدث ومهما كان الغبن:

محروسة من كل حاسد

يا أم الرجال الشــدايد

وين تطلبيني راح أسـد

مهمن تكون الشدايــد

لقد جال الشنهوري في أغراض عديدة ، كانت قضايا الوطن أكثرها مرارة ، وأولها حضورًا علي صفحات الديوان ، بكينا معه علي أرضنا التي يجول فيها الأغراب كأنهم أصحاب البيت ، يجلسون يشربون في كوب جدي ويفترشون سجادته علي أرضه الطاهرة , باح كثيرًا بالمكنون ، ووري كثيرًا أيضًا ؛ لكن متعتنا ازدادت حين فاضت الحكمة من بين ربوع الديوان ، كما غلفت الروحانية الكثير من قصائده ، .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بكم..
أشرف بتعليقاتكم..
محبتى