الجمعة، 1 يناير 2010

الناقد جمال محمد عطا و رحلة المعني في الشعر العربي بقلم: د. ممدوح النابى







الناقد جمال محمد عطا و رحلة المعني في الشعر العربي






من مساءلة السلطة إلى آليات التشكيل

د. ممدوح فراج النابي

ناقد أدبي وباحث




في دراسة جيدة جديرة بالقراءة والتأمل معًا ، صدر للباحث والناقد جمال محمد عطا ، كتابه الأول ضمن إصدارات حكومة الشارقة ، بعنوان " رحلة المعنى في الشعر العربي: من سلطة الشكل إلى مساءلة السلطة " ، وهو الكتاب الفائزة بجائزة النقد في هذا العام .

يبدأ الباحث دراسته منتقدًا عجز بيت المتنبي الذي يقول فيه " أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر الخلق من جراها ويختصم "، حيث ينفي أن يكون الشاعر هو الطرف الوحيد الذي لا يشعر بالمعاناة في عملية خلق المعني الشعري ، وقد ألقى المهمة والمعاناة على كاهل القارئ والناقد على حدٍ سواء في حين يفرغ الشاعر ، لنومه مستلذا بما يخلقه من حالة حوار وجدال ، وقبلهما معاناة في اسكناه ما يقصده الشاعر .
وقد أشار الباحث إلى أنّ اعتداد المتنبي - والذي عرفناه صفةً أصيلة في إبداعه وحياته قاطبة - هو ما دفعه إلى هذا التوهم ، الذي نفاه الشعراء أنفسهم ، باعترافاتهم بحجم المعاناة التي تعتريهم من أجل الوقوف على معنى شعري ، على الأقل يُرضي نرجسية الشاعر قبل أن يفكر في ذائقة المتلقي ، والأمثلة عديدة بدءًا من امرئ القيس الذي يدفع القصائد عنه دفعًا ؛ حتي يصل لما ينتخبه ، مرورًا بالبحتري الذي يُعانى مرّ المعاناة من أجل أن يقف على قصيدة تتواءم مع صفات ممدوحه ، إلى عُدي بن قراع الذي يبيت ليله ساهرًا – عكس المتنبي – ليقوّم قصيدته ، وسويد بن الكراع الذي يَهيمُ في وقت السَحَر مُطَارِدًا القوافي الشاردة التي تستعصي عليه ، فيردّها بعد جهد جهيد .

ويقرُّ الباحث في كتابه القيّم ، أن ثمة صراعاتٍ ذات طبيعة نفسية واجتماعية تأخذ في الظهور ، قبل عملية الإبداع الشعري . فما أن يبدأ الشاعر في تشكيل عمله ؛ حتى يصطدمَ باللغة ، التي تُمثّل على حدِّ تعبيره " عائقًا لما يسعى لتحقيقه ". فالشاعر قبل كل شيء يسعى لتجاوز اللغة المألوفة إلى لغةٍ أخرى مميّزة تَحْمِلُ ضمن ما تحمل قيمًا قد تتعارض مع قيمه ومُثُله اللتين يتمثلهما . أما العقبة الثانية التي يسعى لتجاوزها، فهي التقاليد الفنية ، والتي يًعَدُّ التمردُ عليها تمردًا على الجماعة وعلى ذائقتها الجمالية . وفي ظل هاتين العقبتين ، لا يجد الشاعر مناصًا من إعادة إنتاجِ اللغةِ وتَشْكِيلها ، ساعيًا في الوقت ذاته إلى إنتاج معانيه الجمالية ودلالتها ، دون الإغضاء من أن " اللغة تَخْرجُ من رحم المجتمع " لكن بمعانٍ جديدة ، وسياقات مغايرة لمعانيها المألوفة ، قد تتفق أو تخالف عما ما كانت عليه من قبل .

كما يرى الباحث مادام الشعر حاملاً لهذه اللغة ، فقد يقف محتجًا ضد كل المعاني التي تُشكِّلنا وتُشكِّل ذواتنا، أو حتى الوقوف ضد بعضها ليحرّرنا من أَسْرها ، وفي ضوْء هذا ينحى الشعر منحًا جديدًا ، يكون فيه بمثابة النبراس الذي يضيء لنا كل العتمة التي خَلَقَتها وشوّهتها الخطابات القمعية .

وقد جاءت الدراسة في جزأين أحدهما تنظيري تتتبع رحلة المعنى في الكتب النقدية القديمة واستعرض آراء النقاد في طبيعة المعاني ، وآليات إنتاجها. وقد بدأ فصله بعبارة الجاحظ
" المعاني مطروحة في الطريق .." متساءلاً عن مصدر هذه المعاني وحقيقتها ، وهو السؤال الذي لم يُجبْ عنه الجاحظ ، فعرج الباحث إلى تتبع الإجابة عن السؤال عبر النظريات الاجتماعية أو ما يعرف بأركولوجيا المعرفة ( من هربرت بلومر في صياغته للفرضيات التفاعلية ، والتي قال فيها :إن المعاني هي نتاج للتفاعل الاجتماعي في المجتمع الإنساني، وهوسرل في الفلسفة الظاهراتية ، واعتباره الإنسان سابقًا لوجوده ، وبذلك أكدّ على أن الذات الفردية هي مصدر وأصل كل معنى ، إلى النظريات البنيوية وما أثارته من قضايا ، خاصة دراستهم عن اللغة فصار المعني نتاج أنساق لغوية / بُنى كامنة ) وانتهى الباحث إلى أن النظريات الاجتماعية تأرجحت في إجابتها عن السؤال المطروح بين اتجاهين : الأول يؤكد فاعلية الذات في إنتاجها لمعانيها وتشكيلها لعالمها ، والثاني يقرّ بأن الفرد والذات واللغة مجرد نتاج لبنية كامنة .وتطرق الباحث في رحلة بحثه عن إجابة لسؤاله، لدراسة علاقة الأيديولوجيا بالمعاني العامة ، وخَلُص بعد عرضه لتعريفات المصطلح ، إلى أن اللغة هي مستودع الأيديولوجيا ، التي تلقي بظلالها على المعاني المطروحة في الواقع ، مما يعني أن لها سلطة في التنظيم الاجتماعي وتشكيل الأفراد ،وبالتالي فإن مقاومة الأيديولوجيا أو على الأقل تنقيتها من الشوائب ، لا يتأتي إلا بتشكيل اللغة مرة أخرى ، كما أن الشكل المنظم لوحدات المضمون داخل العمل الشعري هو الذي يقاوم الأيديولوجيا وليس المضامين كما يعتقد كثيرون .

وعبر قراءة واعية لتراثنا الشعري والنقدي معًا ، راح يبحث عن عملية إنتاج المعني الشعري منذ الشعر الجاهلي ، وقطع بأن العرب لم تكن لهم نظرية منهجية في نقد الشعر ، وإنما كانوا معتمدين على الذائقة والتي انعكست على أحكامهم التي جاءت انطباعية ( مرحلة أم جندب ) لكن هذه الرؤية تغيرت مع " ابن سلام الجمحي " في كتابه " طبقات فحول الشعراء " . وقد بدأت بوازغ المنهجية التي أخذت منعطفًا خطيرا على يد " قدامه ابن جعفر " الذي تأثر بكتابات أرسطو وعلى الأخص " فن الشعر " حيث اهتم بالشكل والمبنى ، وعلى إثر ما قدمه قدامه توالت الدراسات التي نحت نفس المنحي بل وطورته مثل ابن طباطبا العلوي في " عيار الشعر " ، وحازم القرطاجني الذي أسهم إسهامات بالغة في علم البلاغة العربية سار على نفس النهج . وانتهى الباحث بعد مرحلة الاستقصاء إلى أن عملية الإبداع الشعري وإنتاج المعنى عند الشاعر القديم كانت تتم عبر مرحلتين منفصلتين ومتعاقبتين ، هما مرحلة الفكر ومرحلة الصياغة ، ورأى أن المعنى الشعري
( والذي ظنه النقاد متحققًا قبل الصياغة ) لا يوجد قبل كتابة النص ، ولكنه يخلق بواسطة النص ومع النص . كما أن البناء الذي التزم به الشاعر القديم ( عمود الشعر ) قيّد المعاني ، فصارت المعاني حاصل تراكم معاني كل بيت على حدة ، فضلاً على أنها صارت أحادية . لكن النقلة النوعية في هضم المعاني وتحريرها جاءت على يد الشعر الحديث ،وإن انقسمت نظرتهم إلى تيارين أحدهما يسعى إلى ترويض الشكل مع تعدد الرؤية وقد مثّل له ( نازك الملائكة وبدر شاكر السياب ، وصلاح عبد الصبور وحجازي وأمل دنقل ومحمود درويش وسميح القاسم ) والتيار الثاني سعى إلى تحطيم الشكل مع إرجاء المعني وقد مثّل له ( أدونيس ويوسف الخال ، ونوري الجراح ، وأمجد ناصر وحلمي سالم ، ورفعت سلام ، وحسن طلب وعبد المنعم رمضان ) العجيب أن التيارين خرجا من نفس عباءة الظروف السياسية والاجتماعية وأيضًا الأيديولوجية وفوق هذا تأثرهم بالمنجز الغربي وما استحدثته الحضارة الغربية التي انبهروا بها

وبعد الجزء النظري ، جاء الجزء التطبيقي ، في نهاية الدراسة ، لنص أمل دنقل " لعبة النهاية " ( بتعدد نسخه : الخطية ، والمكتوبة )؛ ليكون مختبرًا لتلك المقولات التي أكد عليها في دراسته؛ ليكشف لنا في دراسة فنية معتمدة على منهج إجرائي ، لم يحد عنه الباحث ، بعكس كثيرين، وهو محتوى الشكل . إن أمل دنقل قدّم لنا معنى مغاير للموت ، خاصة موت الذات ، فأمل وقف صُلبًا أمام الموت لا يهابه رغم أحابيل ملاك الموت له ، إلا أنه كان هادئًا مطمئنًا ، بل والأدهى سعى إلى ترويض الموت وأنسنته ، وفي ظل هذه الرؤية التي خرج بها من تحليله لسياق قصيدة أمل عبر ( الشكل الطباعي ، التراكيب ، الإيقاع ، المجاز ، التراث ، البناء ) ، بحث أشكال الغياب والفقد ، التي شعر بها أمل في حياته ، سواء أكان فقد /غياب [ أهل( الأب ، الأخت ) ، أقارب ، وأصدقاء ( يحيي الطاهر عبد الله ، محمود حسن إسماعيل ، صلاح عبد الصبور ، نجيب سرور....) أو حتى فقد الوطن ] فهذا الفقد المتواصل وضعه في مواجهة دائمة مع الموت كما تقول زوجته عبلة الرويني . بل أن ثالوثه ( الخمر والبحر و الصبر ) فشل في تقليل حدة اغترابه ، ومن ثمّ كان الاستحضار المتوالي لصورة الموت ، هي المؤنس له لئلأ يكون آخر أو ( الهُم/ they ) بتعبير هيدجر ، فيريد ذاته ، حتى لو نُظِرَ لهذه الرؤية الموغلة في الخصوصية على أنها رؤية متشائمة ، لكن المدقق يعرف أن هذه الرؤية تحمل بعُدًا فلسفيًا غاية في الأهمية لمعرفة فلسفة أمل في الحياة ونقيضها / الموت ، حيث تعدُّ تمسكًا بالحياة ، فالشخص الذي ينصرف عن الموت للاستمتاع بالحياة ، إنما في الحقيقة ينصرف عن الحياة نفسها ، كما يُقرُّ الفلاسفة أنفسهم ، ومن ثم رادف الموت لمفاهيم جمة لدى أمل ، فالموت صار" حرية ونافذة تفتح عالم الإمكانات " ، وأيضًا "نجاة وفرار"من الموت في الحياة ، وعلى الجملة استبدل أمل بهذه الرؤية المغايرة التي ولدتها معاني النص الجديدة ، دلالات من قبيل ( الاتصال ، الإمكان ، الوجود ، اللقاء والأُنس ) مقابل دلالات زحزحتها رؤية أمل مثل ( الانفصال ، السلب ، العدم ، الغياب والفقْد )

وعلى النقيض من نوم المتنبي " ملء الجفون " ملقيًا بلعبته إلى القارئ ؛ ليسهر ، فإن أمل لم ينم إلا بعد مكابدة ومجاهدة ، وصراع مرير ( نفسيًا واجتماعيًا ولغة ، وتمرد على التقاليد)؛ ليشكل إبداعًا ، يؤرق جفن القاري في استكشاف جمالياته ودلالاته المغايرة لسياق المعاني المألوفة ، ويحدد موقفه في هذه اللعبة الثنائية النص / الحياة ، ليكتشف دورًا ووظائف جديدة ترقى به إلى استحاق أن يحيا .

وبعد هذا هل يحق لنا أن نركن إلى مقولة الجاحظ " المعاني مطروحة في الطرقات ..." كما سبق أن رددها النقاد ، أم نتفق مع الباحث في أنها فقدت مصداقيتها بفعل الزمن والتطور التاريخي ، خاصة أن المعاني في ظل التيارات الأيديولوجية المتباينة والمتصارعه شابتها أدران السلطة ، فحادت عن هدفها إلى خدمة مصالح فئوية ، ونخبوية فردية .

فتحية للباحث المنتّظر منه الكثير ، وهنيئًا لأستاذه الدكتور سيد البحراوي، الذي خرج من عباءته .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بكم..
أشرف بتعليقاتكم..
محبتى