الخميس، 24 مايو 2012

محمود مغربي الدونجوان ...حسن عبد الموجود




أحداث
محمود مغربي الدونجوان

http://a5.sphotos.ak.fbcdn.net/hphotos-ak-ash3/542089_353652818032107_1802354288_n.jpg






06/05/2012 04:36:42 م 

 

حسن عبد الموجود




وصل إلي الخمسين ولم‮ ‬يتغير فيه شيء،‮ ‬الشعر المفلفل الأبيض،‮ ‬صوته الطفولي،‮ ‬ملامحه الشابة السمراء‮. ‬محمود مغربي في الخمسين هو محمود مغربي في الثلاثين‮!
 
حياة مغربي عنوانها‮ "‬المحبة‮". ‬المحبة هي ما‮ ‬يحافظ علي الروح شابة،‮ ‬والكراهية تبكّر بالشيخوخة،‮ ‬يقول‮ "‬مسكين وفقير من لا‮ ‬يجد المحبة‮"‬،‮ ‬ويضيف‮ "‬محبة الناس لا تشتري‮. ‬أنا لا أطمح في جوائز شعرية،‮ ‬جائزتي الحقيقية هي أن تربت عليّ‮ ‬أيدي المحبة‮". ‬في أثناء دراستي الجامعية في قنا،‮ ‬أتيحت لي معرفته‮. ‬كانت فرصة لمقابلة الشاعر الجنوبي ذائع الصيت‮. ‬عرفت من الأصدقاء أن مكتبه هو قبلة لكل أصدقائه‮. ‬المكتب في هيئة الطرق والكباري،‮ ‬في مدخل المدينة،‮ ‬وهكذا‮ ‬يصبح مغربي عتبة لها،‮ ‬أو مدخلها‮. ‬لا‮ ‬يمكن أن تجتازها من دون أن تمر به‮. ‬أهدي ديوانه‮ "‬تأملات طائر‮" ‬بخلاف والديه إلي‮ "‬قنا الإنسان والمكان‮"‬،‮ ‬وهذا‮ ‬يوضح تعلقه الشديد بمدينته‮. ‬لم‮ ‬يفكر في الرحيل مثل كثيرين،‮ ‬يعلّق‮ "‬عرض عليّ‮ ‬كثيراً‮ ‬الانتقال إلي أماكن أخري،‮ ‬ولكنني رفضت‮. ‬أنا لا أصمد في القاهرة لأكثر من أسبوع رغم الصداقات الكثيرة،‮ ‬إنها مدينة‮ ‬غير قادرة علي احتوائي‮. ‬أنا أعشق الإسكندرية وبورسعيد وأسوان ولكن تظل قنا رغم قدرتها علي إيلامي مدينتي التي لا‮ ‬يمكن أن أغادرها‮".‬
لم‮ ‬يفكر مغربي أيضاً‮ ‬في تغيير لهجته‮ "‬ليس تعصباً،‮ ‬ولكن لأنها لهجة عبقرية،‮ ‬وهي مفهومة جداً‮ ‬بالنسبة للآخرين في العالم العربي‮. ‬أغاني الأبنودي،‮ ‬والمسلسلات المصرية أسهمت في انتشارها والتعريف بها في الأقطار العربية‮". ‬في مكتبه تعرفت بكثيرين من أدباء الجنوب،‮ ‬من حدود محافظة الجيزة،‮ ‬إلي أسوان‮. ‬لا شيء‮ ‬يجمعهم به،‮ ‬سوي محبته الشديدة التي‮ ‬يغدقها عليهم‮. ‬يقول‮ "‬استلمت مكتبي في‮ ‬85،‮ ‬ولم أغيره من وقتها‮. ‬إنه‮ ‬يحمل رائحة أصدقائي،‮ ‬من عاشوا ومن رحلوا‮"‬،‮ ‬يضحك‮ "‬يبدو أنني سآخذ ذلك المكتب إلي المنزل حينما أرحل،‮ ‬لأنه‮ ‬يمثل لي الكثير‮"‬،‮ ‬ويضيف‮ "‬تلك علاقتي بالجماد،‮ ‬فكيف تكون علاقتي بالإنسان؟‮".‬
المكتب‮ ‬يحمل ذكرياته مع أصدقاء مقيمين وآخرين رحلوا‮. ‬لا‮ ‬يكف عن ذكر سيرة الراحلين،‮ ‬كأنه‮ ‬يؤدي دوراً‮ ‬بالإبقاء عليهم أحياء‮. ‬صورهم تحت زجاج المكتب،‮ ‬مع قصاصات لكتابات له هنا وهناك،‮ ‬أو قصاصات بخط أصدقاء‮. ‬المقهي القديمة أمام المكتب،‮ ‬كانت بدورها جزءاً‮ ‬من طقوس مغربي مع الأصدقاء‮. ‬الخطوة الثانية كانت موعداً‮ ‬في المقهي الأشهر،‮ ‬الجبلاوي،‮ ‬الذي خرج منه أمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي‮. ‬
كنا‮ "‬شلة الجامعة‮" ‬نتفق علي أن نلتقي عنده‮. ‬عند محمود مغربي،‮ ‬وكان‮ ‬يكفي تليفون واحد ليكون حاضراً،‮ ‬وحتي ولو لم‮ ‬يتح الاتصال به،‮ ‬كان من السهل إيجاده،‮ ‬صباحاً‮ ‬في مكتبه،‮ ‬ومساء إما في الجبلاوي،‮ ‬أو في قصر الثقافة،‮ ‬حاضراً‮ ‬بنفس ابتسامته التي لا تغيب‮.‬
مغربي من مواليد منطقة‮ "‬الشؤون‮"‬،‮ ‬القريبة من كلية الآداب،‮ ‬لفترة طويلة عاش هناك،‮ ‬في منزل من طابقين،‮ ‬والده كان‮ ‬يقطن الطابق الأرضي،‮ ‬وهو العلوي‮. ‬مكتبته كانت تحتل‮ ‬غرفة كاملة،‮ ‬كان‮ ‬يعيش بجواره صديقه فتحي عبد السميع،‮ ‬القرب أسهم في توطيد علاقتهما،‮ ‬ولكن لمشاكل في بناء البيت‮ ‬غادره ليسكن شقة بالقرب من الجامعة،‮ ‬التي‮ ‬يرتبط بشبابها ارتباطاً‮ ‬وثيقاً‮. ‬كثيرون مروا علي الجامعة من قنا وخارجها،‮ ‬ثم عادوا إلي قراهم ومدنهم ولكنهم حملوا معهم محبة محمود وصداقته‮. ‬إنه نقطة أساسية لبداية أي موهبة جامعية‮. ‬لا‮ ‬يكف عن ترديد النصح،‮ ‬ويستمع إلي ما‮ ‬يكتبونه،‮ ‬وينشر إنتاجهم في الجرائد التي‮ ‬يشرف علي صفحاتها الأدبية،‮ ‬وبالأخص في‮ "‬صوت قنا‮"‬،‮ ‬والخطوة التالية‮ ‬يُرسل بعضه إلي أصدقائه المشرفين علي الصفحات الأدبية في الجرائد الكبري،‮ ‬ولا‮ ‬يخبر صاحب النص إلا بعد نشره‮. ‬لحظتها‮ ‬يتصل به ليخبره بأن‮ ‬يشتري نسخة من الجريدة التي نشرت نصه،‮ ‬وهي مفاجأة‮ ‬يكون لها وقع،‮ ‬من المؤكد،‮ ‬شديد البهجة علي شخص‮ ‬يتلمّس خطواته في عالم الأدب‮. ‬إنه لا‮ ‬ينتظر،‮ ‬فعلاً،‮ ‬كلمة شكر،‮ ‬وستجد كثيرين‮ ‬يرددون هذا‮. ‬مغربي أقرب إلي نبي،‮ ‬بدون مبالغة،‮ ‬فلا أحد‮ ‬يذكر أبداً‮ ‬أنه دخل في معركة أو عداوة مع شخص ما‮. ‬يضحك‮ "‬الكاتب الموهوب الراحل أحمد الدقر كان‮ ‬يسألني‮: ‬لماذا لا تتضايق مني مثلما‮ ‬يفعل الآخرون؟ لماذا تصرّ‮ ‬علي الجلوس معي؟‮!"‬،‮ ‬ويضيف‮ "‬كان كاتباً‮ ‬مسكوناً‮ ‬بجنون المبدع،‮ ‬وكان البعض لا‮ ‬يتفهم شخصيته جيداً،‮ ‬وهو شعر بهذا،‮ ‬غير أنني كنت أتفهمه جيداً،‮ ‬وصرنا صديقين‮".‬
ليس هذا فقط ما‮ ‬يفعله مع الآخرين‮. ‬أي كتاب‮ ‬يعجبه‮ ‬يشتري منه ثلاث نسخ،‮ ‬واحدة له،‮ ‬وواحدة للاستعارة،‮ ‬وأخري‮ ‬يسميها‮ "‬رشوة أدبية‮"‬،‮ ‬يمنحها لشخص ليحببه في القراءة،‮ ‬يقول‮ "‬إنني أسدد ديناً‮ ‬لأن هناك من فعل ذلك معي‮. ‬أمجد ريان الذي كان‮ ‬يصدر مجلة‮ (‬رباب‮) ‬وفتح مكتبته للجميع‮. ‬كان‮ ‬يقرأ لي قصائد من الشعر العالمي،‮ ‬وكان‮ ‬يُعيرني الكتب،‮ ‬وأيضاً‮ ‬يستمع لي ولا‮ ‬يبخل عليّ‮ ‬برأيه‮. ‬إنه شخص ساهم فعلاً‮ ‬في وضعي علي أول الطريق‮"!‬
مغربي بوسامته الجنوبية دونجوان حقيقي‮. ‬قلت له إن جميع صور رحلتك الأخيرة إلي المغرب تجمعك بفتيات ما عدا صورة‮ ‬يتيمة تجمعك بصديقنا الطيب أديب فضحك بشدة‮. ‬كان‮ ‬يهوي صعود النخل في حقول قنا،‮ ‬ليحضر الرطب ويرميه في حِجر البنات،‮ ‬وكان‮ ‬يهرول خلف الأولاد الذين‮ ‬يأتون لمطالعة سيقانهن‮. ‬كان لا‮ ‬يرضي،‮ ‬كجنوبي،‮ ‬بتلصص الذكور علي الإناث‮. ‬يقول في قصيدة‮ "‬للوقت نخيل‮/ ‬إن تصعد أدهشك الرطب‮/ ‬إن تجبن داهمك الحجر‮". ‬الأنثي نفسها تظهر في عنواني‮ ‬عملين له‮ "‬ناصية الأنثي‮"‬،‮ ‬و"صدفة بغمازتين‮"‬،‮ ‬يقول ضاحكاً‮ "‬الأنثي شيء ضروري في حياة الإنسان،‮ ‬ولكن بقدر القرب منها أحافظ علي البعد‮. ‬أنا حذر جداً‮ ‬فيما‮ ‬يخصها،‮ ‬فمن‮ ‬يقع في شرك المرأة‮ ‬يتعب جداً‮"‬،‮ ‬ويضيف‮ "‬أي إنسان ليس له علاقة بها،‮ ‬صداقة،‮ ‬ومحبة،‮ ‬وتفاعلاً،‮ ‬إنسان فقير‮. ‬الحياة بدون امرأة صحراء‮. ‬إحساسك بالتهميش من السلطة شيء مقدور عليه،‮ ‬ولكن أن تكون مهمشاً‮ ‬من المرأة،‮ ‬مكروهاً‮ ‬منها،‮ ‬ستشعر فعلاً‮ ‬بأنك تواجه مشكلة عظيمة‮".‬
هناك كتّاب وشعراء لا‮ ‬يفارقون مغربي‮. ‬يقول‮ "‬محمد شكري الذي كان أميّاً‮ ‬ثم أصبح كاتباً‮ ‬كبيراً‮. ‬باولو كويلهو بحلمه ودهشته وبحثه عن الخلاص في‮  (‬الخيميائي‮)‬،‮ ‬بهاء طاهر الذي أعتبره علامة مضيئة في تاريخ الرواية العربية‮. ‬الحكاء العظيم خيري شلبي‮. ‬صلاح عبد الصبور ومسرحه‮. ‬أمل دنقل الحاضر بصيحته‮ (‬لا تصالح‮)‬،‮ ‬لوركا وصراعه ضد السلطة،‮ ‬محمد الماغوط بلغته المبهرة‮. ‬حنا مينا وحيدر حيدر،‮ ‬اللذان قرأت لهما كثيراً‮ ‬من الأعمال بمساعدة الصديقة السورية إيفين حرسان‮" ‬ويضيف‮ "‬لا أنسي أبداً‮ ‬بدر شاكر السياب،‮ ‬ونازك الملائكة،‮ ‬ونيرودا،‮ ‬وبالطبع أدونيس‮"‬،‮ ‬ويتابع‮ "‬ومن أصدقائي فتحي عبد السميع وديوانه الجميل‮ (‬الخيط في‮ ‬يدي‮). ‬فتحي صديق كفاح،‮ ‬من الشعراء الممتازين وهو أيضاً‮ ‬ناقد وجندي مخلص للإبداع،‮ ‬كما لا أنسي أبداً‮ ‬أصدقائي الراحلين،‮ ‬محمد نصر‮ ‬ياسين وسيد عبد العاطي،‮ ‬وعطية حسن‮". ‬يتذكر‮ "‬آه‮.. ‬أنا دائماً‮ ‬أحن إلي محمود درويش وهو‮ ‬يحن إلي خبز أمه‮". ‬


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بكم..
أشرف بتعليقاتكم..
محبتى