الجمعة، 8 يونيو 2012

قراءة في قصيدة ((رودس فقاعة الحلم المتلألئة)) للشاعرة سماح شلبي بقلم عنان عكروتي







قراءة في قصيدة ((رودس فقاعة الحلم المتلألئة))
 للشاعرة سماح شلبي

 بقلم عنان عكروتي

.....


النص

رودس فقاعة الحلم المتلألئة

في تزاحمِ الشَّعْر المتطاير

وعين سفينة ترنو ... إلى عروس غامضة
ترفل في ثوب باهي ... يعوم على وجه البحرِ
والموج المهتاج ... المتهافت على أطرافها
لا يملّ التّكسّر على ثناياها المعاندة ...

رودس ... بأذرعتها المفتوحة لكل الاحتمالات...

أفيون الشعراء .. ومدمنات المرايا
جاذبة حاصدو المتعة ،
لا تروي ظمأ الذّئاب الكهلة ...
أولئك العابرون فوق يباب اللذة النَّسّاء ،
يُوزِّعون زفرات شَبَقهم المحمومة في طقوس ليلها الوثنيّ..

بين النّقيضين تَجثُم .. توأم الفردوس المدهشة

أرض نضوح الشهوات
تُساق الأنوثة قُرباناً على مذابح العشق
وأطياف الرؤى الخضراء والحمراء
ووجوه البراءة المعفّرة بالرّمل
ومتنسّك يَتلمّظ نشوتَه البكر ..
وبائعة مطرّزات تُحيك أوشحة العفّة المعطّرة بعرق اليدين ...

رودس العجائب !! أين أبولو حارسك العملاق ؟

أزُلزِلَ فارسك المغوار؟
أكبَّ على الركّبِ .. سرقوا قوسه والنشّاب!
إقتلعوا برونز الجلد... وأطفأوا شعلة عينيه ...
لنعبرها إذن ... بين الأجساد المرتخية
على سخونة الرمل
و هليوس تهوي على خدرها ،
تُمسِّد عُريها بلونٍ قُرمزي
والبخرُ المتصاعد من صخرةٍ صلداء مُتاخمة
يَلثم زهرة بتول .. لا تَعرِفَ التَّجهُّم ،
تَحني عنقها للّفحات اللاهبة ...

وفي ليلِ شاطئها مُسرف الحنين

زغاريد نورس
وقمرٌ ثمل ينساب في مسارب محاريبها المقدّسة
في الأطلال والمخادع الداّئخة باذخة الرَّعشات ...
لوحة تتماهى مع رائحة الملح ..
وصنوبر الصواري والشعر الأسود المبتل ،
وثرثرات البحر الواشية تتهجّؤها في سيمفونية لا تنتهي ...

رودس المنذورة للريح ...

تزيغ العقل و تشنفُ الروح
بصوامعها ومساجدها ،
بقلاعها و أزقتها ،
بملاهيها ومقاهيها الحالمة ،
تفغر فاها للمتسللين عبر شقوق مخملها
تُدغدِغ الحواس المتوثّبة .. وتقبض على القلب بتؤدّة ...

إرثها هيدب الندى ..

ونديف اللوز الهطّال
وقُصاصات وعود ومواعيد عرقوب بالية
لا يفتر عزيمتها تعاقب الفصول ،
ولا لنهارها الوضَّاء المُحتَدِم صَخباً غَضاضة ...

رودس فقّاعة الحلم المتلألئة

لا يفقؤها غير شراعٍ يُدير ظهرهُ لها
وجرار ذكرى تكسّرت على أعتاب الرحيل


  سماح شلبي

******

 

قراءة في قصيدة ((رودس فقاعة الحلم المتلألئة))

 بقلم عنان عكروتي


توظيف الأسطورة في النص الشعري عملية تتطلب قدرة كبيرة ودراية واسعة بتطويع اللغة وتكييفها مع النص الشعري حتى يصبح الرمز الأسطوري عنصرا فنيا يضيف الى النص الاب داعي بعدا آخر يقوي من متانته ويمنحه تفردا أكثر.
أعود مرة أخرى الى هذا التعريف و أنا أقرأ نص الشاعرة الفلسطينية سماح شلبي ((رودس فقاعة الحلم المتلألئة)) حيث أبهرني جدا وأغراني مرة ومرة لأغوص في أعماقه متذكرة ما قاله الأستاذ ابراهيم نصر الله في حوار له أن الرمز في الشعر يكون مقبولاً وإبداعياً عندما يذوب في القصيدة كما يذوب السكّر في الماء . والأسطورة تتوافق مع النص الشعري حيث أن كليهما يقفز فوق الزمن ليصبح من الخالدين.
من العنوان نغوص في مزيج من التدفق الأنثوي الرقيق ( فقاعة الحلم المتلألأ) هذا الفضاء الساحر الذي أغرقتنا فيه سماح من الوهلة الأولى تلك الفقاقيع التي كنا نلعب بها ونحن أطفالا متخيلين أننا لما نمسكها ستحملنا الى عالم العجائب حيث سنجد الأميرات والغابة الساحرة . حلم طفولي يظل يكبر معنا ويرافقنا على امتداد رحلتنا في الدنيا نعيشه في كل مرحلة من حياتنا بطريقة جديدة .لكنه في النهاية خيالنا الطفولي الذي لا يفارقنا ولا نريد مفارقته .
القصيدة تتكون من ثمانية مقاطع شعرية كل مقطع عالم من الروعة تساهم في ثراء البناء الفني للقصيدة التي أعتبرها نقلة فنية للشاعرة والتي اعتادت في أغلب نصوصها التركيز على ايجاد ألفاظ غير متداولة و خلق صور شعرية خاصة بها في محاولة منها للتجديد بأسلوبها وخلق هوية شعرية تتفرد بها . وهنا في هذه القصيدة يستهويها سحر الشرق و عبق الحضارة الاغريقية لتترجمها في هذه النبضات الحارة لذكرى رحلة لا تنسى كما قالت سماح وكان صدق الاحساس وروعة الذكرى هما اللذان يتكلمان؟
وتتواصل دهشتنا مع القصيدة في هذه الحوارية الذاتية المتدفقة من ذات الشاعرة لنقرأ:

رودس ... بأذرعتها المفتوحة لكل الاحتمالات...
أفيون الشعراء .. ومدمنات المرايا
جاذبة حاصدو المتعة ،
لا تروي ظمأ الذّئاب الكهلة ...
أولئك العابرون فوق يباب اللذة النَّسّاء ،
يُوزِّعون زفرات شَبَقهم المحمومة في طقوس ليلها الوثنيّ..

بين النّقيضين تَجثُم .. توأم الفردوس المدهشة
أرض نضوح الشهوات
تُساق الأنوثة قُرباناً على مذابح العشق
وأطياف الرؤى الخضراء والحمراء
ووجوه البراءة المعفّرة بالرّمل
ومتنسّك يَتلمّظ نشوتَه البكر ..
وبائعة مطرّزات تُحيك أوشحة العفّة المعطّرة بعرق اليدين ...

تعود الذاكرة الى الأسطورة اليونانية التي تقول أن أبولون أُغرم برودوس الجميلة، وتزوّجا وأنجبا أبناءً كثرًا. أسّس أبناؤهم الثلاثة الصغار مدن الجزيرة الثلاث الأولى وهي: لاليسوس وليندوس وكاميروس. وعندما وضع التاريخ قبضته على الأسطورة تحوّلت الجزيرة إلى مستعمرة فتناوب على حكمها الفرس والرومان والبيزنطيون والأتراك، مما جعلها جزيرة تختصر سحر الحضارات التي اندثرت في مساحات الزمن بكل وجوهها ولم تبقى منها الا آثار يزورها السواح وعشاق التاريخ (1).في هذا المقطع يمتزج الحزن بالأسى وندرك أن ذات الشاعرة حزينة لما وقفت على أطلال تمثال أبولو الذي تمنت لو أنها وجدته لازال قائما شامخا كما تحدثت عنه الأساطير . وهنا حين يشاطر الشاعر المكان حزنه و تتقدس في تلك اللحظة الأرواح التي تسكنه الشاعر متحدة بالمُقَدَّس في هذا الحضور حين تسكن الذات هذه الرموز وتسافر معها في حرقة وشوق لما مضى تتوحد كلها لتجمع الشرق بالغرب في لحظة فريدة تترجمها الشاعرة وهي تعيش حرقة اغتصاب الوطن و تفتته و تشرد أهله وهي الفلسطينية التي تعيش تحت سلطة الاحتلال في ما يسمى فلسطينيي الداخل. هذه المأساة التي في داخل كل مواطن فلسطيني راسخة في لا وعيه تتجسد بصورة دائمة في كل ما يمت للقضية بصلة ولو من بعيد ويخرج لا شعوريا حزنا وزفرات لا تنتهي.وهنا تظهر القدرة الهائلة للشاعرة على البناء والتضمين في نصها . ويستمر هذا الابهار في المقطع التالي للقصيدة

وفي ليلِ شاطئها مُسرف الحنين
زغاريد نورس
وقمرٌ ثمل ينساب في مسارب محاريبها المقدّسة
في الأطلال والمخادع الداّئخة باذخة الرَّعشات ...
لوحة تتماهى مع رائحة الملح ..
وصنوبر الصواري والشعر الأسود المبتل ،
وثرثرات البحر الواشية تتهجّؤها في سيمفونية لا تنتهي ...

الليل رفيق الشعراء الدائم و حبيب خلواتهم المجنونة. في الليل يغني موال الحنين ويعزف وتر الشوق ويطل القمر شاهدا دائما لا يتغير حتى أصبح أحد الرموز التي لا تسقط من كل قصائد الشعر العربي عبر التاريخ. في هذا الليل تعد الشاعرة سماح شلبي لوحتها الشعرية في سمفونية لا تنتهي حيث تستسلم لليل مسرف الحنين وزغاريد نورس وقمر ينساب , روعة في التصوير ودهشة في الخيال الذي يتضمن ذاتها المرتبطة بالآخر وهي تتنقل في تصويرها الذي هو رجع صدى لما يدور بداخلها في تواصل انسيابي عجيب يظهر المقدرة الفائقة للشاعرة في ربط الماضي بالحاضر للهروب من التعبير المباشر الذي لا نحبذه عادة في الشعر وتكون الحبكة أكثر لما يكون مختفيا بين الصور يحاول الاختباء ولا يختبئ . كل هذا التناقض الداخلي لا يخلو من رومانسية حالمة حيث توشح ثرثرات البحر عالمها رغم أنها واشية لا تحفظ السر . وتعود الى لحظتها الراهنة لتربط الشرق بالغرب كما ربطت الماضي بالحاضر في المقطع التالي من النص

رودس المنذورة للريح ...
تزيغ العقل و تشنفُ الروح
بصوامعها ومساجدها ،
بأزقتها وملاهيها
بقلاعها ومقاهيها الحالمة ،
تفغر فاها للمتسللين عبر شقوق مخملها
تُدغدِغ الحواس المتوثّبة .. وتقبض على القلب بتؤدّة ...

إرثها هيدب الندى ..
ونديف اللوز الهطّال
وقُصاصات وعود ومواعيد عرقوب بالية
لا يفتر عزيمتها تعاقب الفصول ،
ولا لنهارها الوضَّاء المُحتَدِم صَخباً غَضاضة ...

هنا ننصت بعناية فائقة بالشعور بالقوة في ذات الشاعرة فهي ترى رودوس هذه المنذورة للريح / للخراب / للعدم / صامدة تزيغ العقل وتشنف الروح /الشرق صامد فيها ,حاضر ,تجذر لا يقدر على محو بصمته الدهر و لا عظمة الطراز الغربي .انه شعور بالاستعلاء و المكابرة للانتقام من هذا الغرب الذي اعتبرنا دائما دونا و همج يجب ترويضم واستعمارهم ليتحضروا . هذا العنصري الذي زرع في قلبنا النابض كائنا غريبا يسفك دمنا ويحتل أرضنا ويشرد شعبنا . تقول له الشاعرة في عمق عمقكم لازلت البصمة الشرقية صامدة والحضور الشرقي لا يختفي وسيظل شاهدا عبر الزمن على مجد لا يتوقف . كأنها ردة فعل لما تتعرض له من جبروت الاحتلال ولو لبضع لحظات ستتمتع بهذا النصر بينها وبين نفسها لتثبت أن كل محاولات الطمس لن تنجح وأن الزمن سيحرس أمانته بطريقته ولن يتخلى عنها وكأنها في أحد أزقة عكا أو حواريها.والشاعرة في هذا المقطع تنصت بعناية لذاتها المتوجعة و تترجمها ومضات نصر على السطور . انها روعة القصيدة حين تحمل بين ثناياها الأمل بالنصر للتوهج أكثر وتمزجه بين الأمس المنكسر والغد المشرق . هكذا يختلط الزمان والمكان في علاقة جدلية لا تنفصم وتكون الشاعرة موطنا لكل هذا التناقض وتترجم هذه السلوكيات في نص يدعونا للدهشة والانبهار به . ويتواصل البهاء و الضوء المنبعث داخل الذات في فضاء القصيدة لنقرأ

رودس فقّاعة الحلم المتلألئة
لا يفقؤها غير شراعٍ يُدير ظهرهُ لها
وجرار ذكرى تكسّرت على أعتاب الرحيل

هي قوة الشاعرة حين تتغلب على الزمن و تتمرد على الواقع وتعيش حلما يترواح بين الشرق والغرب لتشدنا في لوحات فنية متتابعة وتبهرنا برسمها المتميز . سماح شلبي الشاعرة الفلسطينية تمنحنا رحلة عبر مسارب التاريخ تملأ أنفسنا بالدهشة وتسلط الضوء على بعض الزوايا التي تتخفى دائما لتنسج بخيال متميز سمفونية رائعة هي هذه القصيدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بكم..
أشرف بتعليقاتكم..
محبتى