الجمعة، 8 يوليو 2011

( قصة ) الشيطان وحده يسكن هذه البقاع للاديب محمد صالح البحر

محمد صالح البحر

( قصة )

الشيطان وحده يسكن هذه البقاع


للاديب محمد صالح البحر
..........................

ليست فاطمة بالشيئ الذي يؤرقني كثيراً، ولا محبوها الكثر وقد انقلبت رومانسيتهم إلي رغبة وشبق، إنما الحمامة البيضاء التي طارت من عشي لتقع هناك في البعيد، حيث حد الأفق وبِرك الوجوه المشوهة، فتحولت إلي بياض عقيم لا يعكس شيئاً، ولا يكشف عن شيئ.. أنظر تحت السقف قليلاً، ليس للحبل الرفيع، الحاد، يتدلي منه ويتمرجح في فضاء الصالة، إنما إلي القفص الخشبي الأصفر الأنيق، أجده خاوياً مفتوح الباب، يروح ويجيئ مع تمرجح الحبل في الفضاء، فتتساقط حبات القمح علي الأرض، واحدة بعد واحدة، في رنين منتظم ومستمر ومقلق، أوصلني لنفس درجة التوتر التي أفرغها داخلي بندول الساعة وأنا أجلس علي الأريكة الحمراء، العريضة، أنتظر فاطمة.

كل شيئ معد أمامي علي الترابيزة الصغيرة، قطع الحلوي الشرقية التي تُحبها، الماء العذب المثلج، والشاي السخن، لكن التاسعة مساء لا تريد المجيئ، يروح بندول الساعة ويجيئ، لكن الوقت يمر بطيئاً، متواطئاً وصوت الشيطان داخلي يردد:

ــ لن تأتي، لن تأتي.

أعلم أنها في الأيام الأخيرة قد انجرفت وبشكل شبه كلي للأصحاب الذين يشربون البيرة في صالات الديسكو، ويركبون السيارات الفارهة، المزينة، يتكئون عليها علي شاطئ النهر، وفوق الكباري، وفي حواف الشوارع المظلمة ليلاً.

أعلم أنها في الأيام الأخيرة اعتادت لبس "الجينز" و"الاسترتش" والتفوه في كلامها ببعض الكلمات الأجنبية، وأنني أطأطئ رأسي بعد أن أقول لها:

ــ إني أحبك.

وتقول لي

ــ ماذا ستقدم لي معه.

فأصمت الصمت الرهيب، القاتل.

لكنني وهي تتكئ علي حافة سيارة صاحبها، غمزتُ بعيني كما يغمز الأصحاب، وضغطت أصابعها أردد:

ــ ستجدين كلامي صادقاً.

لا أعلم إن كانت بسمتها سخرية فلن تأتي، أم رضا فأجدها الآن تدق منزلي، وقد تخلي بندول الساعة عن معاهدة الشيطان فأعلن التاسعة مساء، الباب لم يطرق، والشيطان يردد لم يزل:

ــ لن تأتي، لن تأتي.

أقوم، أنزع الساعة من الحائط وأحبسها في الدولاب، أغسل وجهي بالماء البارد، أتفرس أركان منزلي، لم تزل في نظري أصيلة وأنيقة رغم تراكم الغبار، فأشرب من الشاي السخن وآكل من حلوتي الشرقية، ومتي تأكدت من عدم حضورها مع دقات العاشرة، يبثها بندول الساعة من خلال الدولاب المغلق، ومن تحت أكداس ملابسي التي طالما وصفتها فاطمة بأنها أصبحت قديمة وبالية، أخرج إلي الشارع.

ليت الحمامة تعرف كم أحبها.

أنا الذي قبلتها هدية ممن أحب.

أنا الذي وقفت علي أصابع النجار كي يُصنع قفصها علي عيني.

أنا الذي هششت الشيطان عنها حين خرج من الحمام يناوشها وحيدة، يمرجح بها القفص في قوة، ويضحك كلما صرختْ.

ليست فاطمة بالشيئ الذي يؤرقني كثيراً، إنما اللوحة الجميلة للحمامة البيضاء، التي رسمتها بيدي، وزينتها بخيالي، وعلقتها في جدار منزلي في زاوية فذَّة، أينما تحركتُ في أركان المنزل الواسع وجدتها تواجهني، تحملق فيّ بكل ماضيها العتيق، تنقش نفسها في كل مكان من ذاكرتي حتى تتمركز فيها، وتتدثر برداء الوحي الذي يُملي الكلمة والفعل ـ إن إطارها الآن يتداعي، يكاد يتركها عارية.. المضئ، الوهاج زيتها ينطفئ ويبهت قدام الضوء الأبيض، المنبعث من السقف بتموجاته السرابية يصنعها هنا وهناك علي جسد اللوحة، وبحرارته التي رغم زيفها تلسع وتنفذ حتى للجدار الضخم الذي شُيد بأياد يتعمد الزمان الآن قطعها، وبأكتاف صلبة طالما تراصت تحت لهب الشمس، وفي وجه الغبار يلفها من كل مكان ــ فيتساقط نتفاً صغيرة، غير محسوسة، مثل رزاز المطر، ما أكاد أحسه الآن وأنا أمشي في الشارع الممتد والنهر، لا أري غير غروب الشمس من وراء غيوم بيضاء، تتلاقي في السماء الخالية، وتدكن مع زحف الليل وقد بدأ نسج خيوطه السوداء مثل عنكبوت فوق جسد المدينة الهامد، مخفياً آثار لحظة عبقرية ولّتْ، كانت الأشياء فيها أكثر نضارة ووضوحاً مما هي الآن.. البنايات العتيقة مجمع الأديان، المآذن تحمل الأهلة والصُلبان، تغريد مؤذن ونغمات جرس، النهر العظيم قادم من قلب الجسد الأسود الكبير يحمل كل التاريخ وكل الجغرافيا، الذاكرة الخالدة عبق الأجداد ومهد الحاضر، إنها الآن غائمة تحت ثقل الغيم ووطأة الظلام.

ليت الحمامة تعرف كم أحبها، ولقد كانت من قبل عاهدتني علي الحب والبقاء.

رأيتها تطير فوق رؤوس الناس، وقد تكالب الشماليون عليهم، ترفرف بالسلام وبالمحبة.

رأيتها تقف علي رأس الجند يوم أتي الهمجيون الغربيون، تحمي وتزود.

ورأيتها تمسك بتلابيب الأجداد وقت الصوم، تُثبت الذاكرة.

أي شيئ غبي وعقيم يخرجني الآن للشارع؟!

أقف علي رأس النهر، دُكنة مياهه في مثل سواد شعر فاطمة إذ تتخلله أصابعي في الضوء الوهاج، أكوره تحت ذقنها فتتحدد معالم الوجه، أبيض في حُمرة الدم، ومدور مثل رغيف شمسي يخرج الآن من فرن الجَدَّة، تتحسس شفتيّ وسمرة جلدي الناعم، تمتد أصابعها تفتح في فمي ويغوص لسانها، وحين أخبرها أن ليس الحب كذلك، ترتخي أطرافها علي حُمرة الأريكة العريضة وتتنهد:

ـــ إنت مش رومانسي.

وتروح عيناها تزوغان في متابعة الشيطان الذي خرج من مرقده، يناوشها بحركاته البهلوانية السريعة في أنحاء المنزل، يخطف منها القلب والعقل، لاهثة لا تستطيع متابعته، فقط تستجيب وتُقلد حتى استنفذتْ أعضاءها فسقطت صارخة، وضحك الشيطان.

ليست فاطمة بالشيئ الذي يؤرقني كثيراً، إنما الشيطان بمحاولاته المستميتة في إخراج الحمامة عن طوقها، صورته ينقشها في كل مكان حتى تحتوي الذاكرة، كلماته يبثها عن بعد وعن قرب حتى تخترق الآذان، حركاته أسرع من أن أحتويها، أو أن أشغل عنها عين الحمامة، أو أمسكه منها فأرده لسيرته الأولي ومرقده في الحمّام، يتملكني الإعياء فلا أقدر علي شيئ سوي أن أقف مستمعاً ومشاهداً ومدثراً بخوفي، مثل وقفتي الآن علي رأس النهر في تلك اللحظة الغبية من حياة الإنسان التي يقدر خلالها أن يكون فيلسوفاً عظيماً، فليست مسألة اعتباطية أن أُديم النظر إلي الصورة والنافذة والضوء الأبيض، فكلها كائنات متأملة، وأن الحب أن يجدك إنسان ما لازمة له، وأن يتخذ منك ذريعة لإستمرار حياته التي لا لزوم لها، ولا فائدة منها بدونك.

متي دخلت منزلي واجهني الظلام، وشدني شيئ ما ببطء كأنما أسير في وحل إلي الحمّام، ومتي دخلت الحمّام وجدت الشيطان، لم يكن وحيداً فقد كانت معه فاطمة، وكانا في وضع جنسي بحت، هو واقف تماماً وفاطمة تجلس علي قاعدة الحمّام، ينحسر ثوبها إلي أعلي، وساقاها العاريتان، الحمراوتان في لون النار، مرتفعتان عالياً بقدر ما سمح للشيطان بالوجود بينهما، لم يحرك الشيطان ساكناً فيما اعتلي وجه فاطمة خجل كالذي اعتلي وجه الحمامة حين انحلال الطوق وتوليها هاربة، لملمت فاطمة ساقيها وثوبها وسحبت ــ في حركة شيطانية ــ نفسها لأعلي، تخرج من السقف فلا يعيقها.

رأيتني أقف وحيداً أمام الشيطان الذي يداري حُمرة جسده المكتنز بسواد ثوبه الفضفاض، وقد اتكأ علي قاعدة الحمّام.. هكذا رأيت القاعدة سوداء كأنما عينيّ استحالتا فرشاة تطلي الموجودات بلون أسود حالك، ورائحة الحمّام وبقايا ماء الشيطان النـتن، الذي سال فوق أرض الحمّام مع انسحاب فاطمة وتوليها هاربة، تزكمان أنفي فلا أستطيع المقاومة، تتخللني الرائحة، تفتتني قطعاً وأشلاءً ونتفاً متناهية في الصغر، تتواري تحت حِدَّة قدم الشيطان وهو يبسطها في قوة وفجور، فيما المدينة في الخارج بكل رمالها وترابها وطرقاتها الأسفلتية، بكل بيوتها الطينية وعماراتها الأسمنتية الخرساء ومجمع أديانها، بكل تاريخها وجغرافيتها وذاكرتها الخالدة، تسقط غاربة في مياه النهر الذي ينكسر ويتواري تحت حِدَّة وطء الظلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بكم..
أشرف بتعليقاتكم..
محبتى